الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية العبادية @ 25- التشريف بالتكليف


معلومات
تاريخ الإضافة: 9/8/1429
عدد القراء: 1023
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق


- أيها الإخوة : لقد انقضى شهر رمضان المبارك بعد أن كان أياماً نستقبلها وننتظرها ، فأصبح حاضراً ثم غدا ماضياً وذكرى نتذكرها.

- وهكذا باقي الأيام ننتظرها ، ثم تكون حاضراً نعيشه ، ثم تغدو ماضياً نودِّعه، فيذهب ولا يعود إلينا أبداً .

- تذهب تلك الأيام وتمضي محمَّلة بأعمال العباد ، صالحها وفاسدها ، فيُختم عليها فلا تفتح إلا للحساب يوم القيامة .

- أيها الإخوة : لقد قمنا بأعمال كثيرة استودعناها أيامنا الماضية ، منها أعمال صالحة نرضاها ونحبُّها ، ومنها أعمال نكرهها ولا نحبُّها .

- وأعمال أخرى واجبة كان من المفروض أن نقوم بها في أوقاتها فأهملنا وفرَّطنا ، فذهبت تلك الأيام مفرَّغة من الصالحات .

- إن الله فرض فروضاً ، وأوجب علينا أموراً ، وحدَّد لبعضها أماكن وأزمنة معيَّنة فأهملناها وفرَّطنا فيها ، فذهبت تلك الأيام بما فيها.

-  إن الله لا يقبل عمل الليل في النهار، ولا عمل النهار في الليل، وما حدَّده في أيام معيَّنة لا يقبله في غيرها، إلا من عذر شرعي.

- فمن أدَّى تلك الأعمال في أوقاتها ومواقعها كما أمر الله تعالى ، فنرجو له القبول ، ومن فرَّط فيها فأمره إلى الله ، إن شاء غفر له ، وإن شاء عذَّبه .

- أيها الإخوة : إن أناساً بيننا ، يعيشون معنا ، قد ثقلت عليهم التكاليف الشرعية ، وودُّوا لو أنهم يعيشون في الحياة هملاً ، لايُؤمرون ولا يُنهون ، كحال الدواب والأنعـــام لا تكاليف عليها ولا واجبات، والله تعالى يقـــول : " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ " .

- إن ما يميِّز الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى من العجماوات إنما هِيَ التكاليف الشرعية ، التي فرضها الله تعالى عليه وخصَّه بها ، كما قال الله تعالى : " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ".

- لو لم تكن التكاليف الشرعية هي الفارق بين الإنسان وسائر المخلوقات العجماوات ، فما هو الفارق بين الإنسان والحيوان ؟

- إن هذه التكاليف الشرعية التي كلَّف الله بها الإنسان ، مع ما فيها من الجهد والمعاناة ، فإنها مع ذلك تحمل للإنسان تشريفاً وتكريماً.

- فالإنسان لم يُرفع ليكون سيد الكون ، وخليفة الله في الأرض إلا من جهة التكليف ، فهو مكرَّم لأنه مكلَّف .

- وما سخَّر الله للإنسان ما في السموات و ما في والأرض إلا ليستعين بها على القيام بالتكاليف الشرعية .

- فما بال أناس يستثقلون التكاليف الشرعية ، يكره أحدهم وصف الأعمال والأشياء بالحلال والحرام ، يريد أن يعيش بلا أحكام  ، وإنما هو الهوى ، إذا صادف شيئا يحبُّه : أخذ به ، وإذا صادف ما يكره : أعرض عنه.

- أيها الإخوة : إنَّ كلَّ تكليف كلَّفنا الله تعالى إيَّاه هو في مصلحتنا ، ويحقق منفعتنا ، لا يصلُ إلى الله من ذلك مصلحةٌ ولا منفعة .

- فالعبادات والمعاملات والحدود ، كلُّ ذلك إنما شرعه الله لتحقيق مصلحة العباد في العاجلة والآجلة .

- فالعبادات وما فيها من الشعائر ، وما تحمله من الجهد والمجاهدة والمعاناة، إنما شُرعت لتزكية نفوسنا وتطهيرها ، والترقي بها في درجات الكمالات الإنسانية.

- والمعاملات إنما شُرعت لضبط الحقوق ، وسلامة العلاقة بين الناس ، والقيام بالقسط .

- والحدود هي الأخرى إنما شُرعت لإحقاق الحق ، وقيام العدل ، وإصلاح الحياة ، وتطهير المذنب من رجس المعصية .

- فلا شيء يصل إلى الله من هذه الأعمال إلا كما قال تعالى  :" لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ... " .

- إن المسلم الحق هو الذي تمتلئ نفسه بالرضا والإجلال لما أنزله الله تعالى من الأحكام والتشريعات .

- يعلم أن في كلِّ تكليف رحمة ، وفي كل إلزام خير ، وفي كل توجيه هداية ، لا تثقل عليه التكاليف بل ينشرح بها صدره .

- وإن المبطل من الناس من يعتقد أن التكاليف الشرعية آصارٌ وأغلال ، تقيِّد حركة الإنسان في الحياة ، وتعُوق تحضُّره وتمدُّنه .

- سبحان الله ، ما أعظم هذه الفرية ، كيف تكون التكاليف الشرعية عائقاً في طريق تقدم الإنسان وتحضُّره والله تعالى هو الذي كلَّف الإنسان بعمارة الأرض وإثارتها ؟

- فكيف يأمره بعمارة الأرض، التي تتطلب الحركة والانطلاق ؟ في الوقت الذي يعوقه بالتكاليف الشرعية، إن مثل هذا التصور لا يكون أبداً .

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : " ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً... " .

* * *

- أيها المسلمون : بقدر ما ارتبطت هذه التكاليف الشرعية بالإلزام ، ووجوب التنفيذ كما قال تعالى:  "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ".

- فإنها مع ذلك قد تكلَّلت بالتيسير ، والتسهيل ، ورفع الحرج كما قال تعالى: " لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ...".

- إن المشكلة لا تكمن في التشريع ، وإنما تكمن في النفوس القاسية ، التي لم تقنع بعدُ بحكم الله تعالى ، ممن يميل إلى حكم الجاهلية .

- لقد أنزل الله على أصحاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم قوله: " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ..." ، فثقل ذلك عليهم ؛ لما فيه من شديد التكليف ، فجثوا على ركبهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، من يطيق أن يُحاسب على ما يقع في نفسه من الأفكار والهواجس والأوهام ؟ فلما قالوا : " سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" ، أنزل الله العذر والتخفيف ، رحمة بهم ، وتلطُّفاً بطبيعتهم البشرية التي لا تطيق مثل هذا : " لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ... ".