الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية العبادية @ 20- تجَّار رمضان


معلومات
تاريخ الإضافة: 9/8/1429
عدد القراء: 925
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

 

- أيها المسلمون : لم يَكَد يدخل علينا شهر رمضان حتى أخذت أيامه تذهب مسرعة ، لم نُفق إلا عَلَى عَشْره الأواخر وهي تمضي سريعة بلا انتظار .

-  لقد فتح علينا شهر رمضان سوق الآخرة كأوسع ما يكون ، الحسنة بسبعمائة ، إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله .

-  وهاهم تجَّار الآخرة قد شمَّروا عن ساعد الجد ، فهذا الصائم ، وهذا المتصدِّق ، وهذا المعتمر ، وهذا المعتكف ، وهذا الذاكر والمبتهل والداعي.

-  الكل مشغول ببضاعته في سوق الآخرة ، يروِّج لها ، يخشى كسادها، ويرجو قبولها .

-  فهذا الصائم الحريص على سلامة صيامه من اللغو والرفث ، قد صان صيامه من المفطِّرات المادية والمعنوية .

-  لقد هابه أن يكون صائماً في الظاهر مفطراً في الحقيقة ، لقد خشيَ أن يكونَ نصيبُه من الصيام : الجوع والعطش والحرمان من الأجر .

-  لقد حفظ لسانه عن الباطل ، وترفَّع بسمعه عن المعازف والملاهي ، وغضَّ بصره عن المحرمات والملهيات .

-  وهذا القائم الخاشع في صلاته ، والحريص على السنة ، قد توقَّى على صلاته من الرياء والسمعة ، لا همَّ له إلا مرضاةُ ربه .

-  يخاف على صلاته من محبطات العمل ، ويخشى أن يكون نصيبه من صلاته : التعب والسهر والنصب .

-  وهذا المتصدِّق الحريص على وضع صدقته في موضعها، ينفق بلا حساب في سيبل الله ، لا تعلم شماله ما تنفق يمينه .

-  يعلـم أن الله طيب لا يقبـل إلا الطيب من النفقة ، فاكتسب ماله من حلال ، ووضعه فيما أحب الله تعالى من الحلال.

-  وهذا المعتمر قد جاء من الآفاق يلبي دعوة ربِّه ، زاده حلال ، ومركبه حلال ، طاف وسعى وشرب من زمزم ، ولم يُؤذ أحداً .

-  جاء من بلده مشتاقاً إلى البيت ، فلما رآه زاده شوقاً ، فلم يشبع من رؤيته والطواف به ، يقبِّل الحجر ، ويستلم بيديه الركن .

-  وهذا المعتكف قد تخفف من الدنيا وشواغلها ، قد شغلته الصلاة وقراءة القرآن عن كل الملهيات ، قد تفرَّغ للعبادة بلا ملل .

-  أكله قليل ، ونومه قليل ، وكلامه قليل ، إنما هو القراءة والذكر والدعاء ، قد انشغل بربه عن الناس .

-  وهذا الذاكر لله تعالى ، قد انشغل بالتكبير ، والتهليل ، والاستغفار ، قد أمضى يومه وليلته في ذكر لا ينقطع .

-  إذا رآه الجاهل ظنَّه مهووساً ، وما عرف أنه في جنة الدنيا ، وما علم أن الذكر من أعظم العبادة : " وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ " .

-  وهذا الداعي المبتهلُ إلى الله تعالى ، قد انقطعت نفسه من شدة الدعاء والتضرع والابتهال ، يرجو القبول ويخشى الرد .

-  له حاجات وضرورات لم يخبر بها أحداً من الناس ، إنما شكاها إلى الواحد الديَّان ؛ لأنه يعلم أن الفرج لا يكون إلا من عنده تعالى .

-  وهذه المرأة الصالحة ، قد صَلَّت خمسها ، وصَامت شهرها ، وحفظت نفسها ، وأطاعت زوجها ، تنتظر رحمة ربها في هذا الشهر الكريم .

-  لم تشغلها الزينة واللباس عن نصيبها من رمضان ، قد فطَّرت في بيتها الصائمين ، وأيقظت للعبادة النائمين .

- تنفق وتتصدق ، وتصلي وتتهجد ، قد أحيت في بيتها ليالي رمضان ، في دعاء وقنوت ، وذكر وخشوع .

-  فإذا خرجت إلى المسجد خرجت في ستر وأدب ، لا تبرج ولا سفور ، قد لبست جلباب الحياء ، لا تفتن ولا تُفتن .

-  أيها المسلمون : هؤلاء تجَّار رمضان ، الذين عرفوا الطريق فلزِموه ، وأبصروا الخطر فتجنَّبوه .

-  لقد نظروا لأنفسهم ، وأعدُّوا لها ، حين أيقنوا أن من لم ينظر لنفسه ، ويُعدَّ لها : فلن ينظر لها أحد ٌمن الناس ، ولن يعدَّ لها غيره .

-  لينظر كلُّ منا لنفسه ، وليعدَّ لها في هذه الدنيا وليصبر ؛ فإن أطول الناس حزناً في الدنيا أكثرهم فرحاً في الآخرة .

-  أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : " فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ " .

* * *

- أيها المسلمون : إن الصيام سيد العبادات ، وهو عبادة السادات ، قد تغلغل حبُّه في قلوب الصالحين من السلف والخلف .

-  فقد التزم الصيام جمع هائل من الصحابة والتابعين وغيرهم ، لا يفطر أحدهم إلا في الأيام التي حرم الله صيامها .

-  قد ملكت عليهم عبادة الصيام حياتهم ، ينتظر أحدهم الموت صائماً للحديث : « من خُتم له بصيام يوم دخل الجنة » .

-  ليس لهم همٌّ إلا العبادة ، فرحهم بدوامها ، وحزنهم بفواتها.

-  دخل إبراهيم بن أدهم رحمه الله على أخٍ له يعوده في مرض أصابه ، فوجده يتنفَّس بحرقة ويتأسَّف ، فقال له : « على ماذا تتنفس وتتأسف ؟ فقال : ما تأسُّفي على البقاء في الدنيا ، ولكن تأسُّفي على ليلة نمتها فلم أقمها ، وعلى يـوم أفطرته فلم أصمـه ، وعلى سـاعة غفلت فيها عن ذكر الله تعالى ».

-  أيها المسلمون : إن الخسارة الكبرى هي خسارة الآخرة، ومهما بلغت الخسارة في الدنيا فلن تعدل شيئاً من خسارة الآخرة .

-  فأي خسارة وندم أعظم من فوات حظوظ الآخرة ، حين يرى التعيس مقعده من الجنة قد أبدله الله به مقعداً في النار ؟

-  فاستعدوا أيها الناس بمضاعفة حسناتكم في هذا الشهر ؛ فإن أحدكم لا يدري ، فقد يقف دخوله الجنة على حسنة واحدة .

-  واحذروا لصوص الحسنات ، وقطَّاع الطرق ، الذين يسرقون جهودكم فيحرقونها في المعاصي والمنكرات .

-  فقد عزم الإعلاميـون وجنَّدوا طاقاتهم لإزالة آثار الصيام من نفوس الناس ، فهل أنتم ممكِّنوهم  من ذلك ؟