الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الجهادية @ 3ـ سنة الله في النصر والتمكين


معلومات
تاريخ الإضافة: 20/9/1427
عدد القراء: 1334
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضلَّ له, ومن يضلل فلا هاديَ له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله, أتقى البريةِ أجمعين, ورسولُ ربِّ العالمين, أرسلَهُ بالهدى ودين الحق, فبلَّغَ الرسالة, وأدَّى الأمانة, ونصح الأمة, حتى تركَهَا على المحجَّةِ البيضاء, ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها إلا هالك.  أما بعد:

فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم, وشرَّ الأمور محدثاتُها, وكلَّ محدثةٍ بدعة,  وكلَّ بدعة ضلالة, وكلَّ ضلالة في النار.

) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (.

) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفــِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِـعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (.

) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (.

أيها المسلمون: إنَّ الناظرَ في صفحات التاريخ الإنسانيِّ الطويل: يجدُ أمماً اختصها الله تعالى بالخير, وحبَّبَ إليها الرشدَ, فلا تعملُ إلا على هدى, ولا تنقاد إلا للحق, ولا تتطلَّعُ إلا إلى الآخرة. وفي الجانب الآخر يجدُ الناظرُ في هذا التاريخ صفحاتٍ أخرى لأممٍ اختصها الله تعالى بالشَّر, وكرَّه إليها الخيرَ, فلا تنقاد إلى الحق, ولا تعملُ على هدى. فأُمَمُ التوحيدِ التي مرَّت عبر التاريخِ الإنساني, منذ أوَّلِ الخليقَةِ: اختصَّها الله تعالى بالخير, وحَـبَاها بالفضل, فكانت مفتاحاً لكلِّ خير, ومغْلاقاً لكلِّ شر, فما زالت أممُ التوحيد تتوارثُ الفضائِلَ, وتتناهى عن القبائح, ترثُ الأجيال المؤمنةُ من سَلَفها الصـــالح: فعلَ الخيراتِ, وتركَ المنكراتِ, فلا تَضُرُّهُم مخالفةُ المخالفين, ولا ضلالُ الضالين, ولا شركُ المشركين. فهم على طريقِ الهدى سائرون, وبنهج الأنبياء مُقْتَدون, وبنور الوحي يستضيئون. حتى إذا أرادَ اللهُ تعالى فناءَ الدنيا, ونهايةَ العالمِ: ختمَ النبواتِ بسيِّدِ الخلق, وحبيبِ الحقِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم, وختمَ معه الأممَ بأمةِ الإسلام, فجعلهم أئمةَ الناس, وساداتِ الخلق, حتى خصَّ جُملتهم بالفضائل, ونزَّه مجمُوعَهم عن الرذائل, فما من فضيلة خصَّ الله تعالى بها أمةً من الأممِ السابقة إلا وهي موجودةٌ في أهل الإسلام, وما من رحمةٍ أنعمَ بها سبحانه وتعالى على أمة من الأمم إلا جعلَ في أمَّةِ الإسلام أضعافَها, حتى نالت بفضل الله تعالى محاسِنَ الأولينَ, وفضائِلَ الآخرينَ, فلم يفتْها خيرٌ في السابق أو اللاحق.

ولئِن كانت أمَّةُ الإسلام اليومَ على غير هذا المعنى في واقع حياتها: فإنها مدعوةٌ في كلِّ حينٍ إلى العودةِ إلى مكانتها, والصعود إلى قمَّتها, والرجوعِ إلى موقعِ قيادتها. فدينها محفوظٌ من التبديل, وثرواتها متوافرة كثيرة, وشعوبُها خلْقٌ بلا عدد. فليس على الأمة سوى أن تُعدِّلَ
ما بنفسها, فتبادرَ إلى الحق لتأخذه بقوة: ) وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَـهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَـهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(.  هذا وعدٌ من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأمَّتِهِ من بعده فهم خُلفاءُ الأرض, وأئِمَّةُ الناس, وأوصياء الله على خلْقِهِ, لا تصلحُ الدنيا إلا بهم, ولا تنعمُ الحياة إلا على أيديهم.

ولقد تحقَّقَ هذا الوعدُ الرباني للأمة الإسلامية في زمنها الأول بعد أن كانت مستضعفةً ذليلةً, فقويت بفضل الله تعالى, وعزَّت بدينه. فما أن تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتولى بعدَه خلفاؤُهُ الراشدونَ في أقلَّ من ثلاثين عاماً من البعثةِ حتى كانت دولةُ الإسلامِ تُظلُّ الأرضَ, وتنشر النور, وتهدي الضال.

أيها الإخوة: إن أمَّةَ الإسلامِ هي الأمةُ الوحيدة اليوم, التي تحملُ وثيقةً صحيحةً عن ربِّ العالمين, فليسَ في الأرض أمَّةٌ من الأمم تستطيع أن تهتدي إلى الحق إلا عن طريق أمَّةِ الإسلام, فهي الأمَّةُ الوحيدةُ المؤهلةُ لهداية الناس, ومن ثمَّ قيادَتِهِم بأمر الله تعالى نحو الحقِ والخـــــير.
وها هي أُمَمُ الأرض اليـوم, رغمَ تقدُّمِ كــــثيرٍ منـها في النواحي التقنيَّـةِ والماديةِ: تتخبَّطُ في دروب الضـــلال الروحي, فلا تهتدي إلى شيء.

فإذا جازَ لعبدةِ الصُّلبانِ, والأوثانِ, والطواغيتِ أن يُحرِزوا لأُمَمِـهِم التقدمَ المادي, ويحقِّقُوا لشعوبِهم السبقَ الحضاري: أفلا يكونُ ذلك ممكِناً لأمة التوحيد؟ إلا أن تقدُّمَ الأمة المسلمة في الميدان الحضاري المادي مربوطٌ بازدهار عقيدتها, ومرهونٌ بسلامةِ سلوكها, فلن يتحقَّقَ لها التقدمُ المطلوبُ إلا في ظلِّ دينها, ورحمةِ شريعتها. وما كانَ اللهُ تعالى ليبدِّلَ سنةً أجراها في كونِهِ من أجلِ تقاعسِ المسلمينَ وتخاذلهم, ولو كان ذلك ممكناً لكانت أمَّةُ الإسلام أحقَّ الأممِ بنصر الله تعالى وتمكينه بغير عمل؛ لكونها أقربَ الأممِ إلى الحقِ, وأحبَّ الأمم إلى الله تعالى.  ولكن اقتضت سنَّـتُهُ أن يُعطيَ المؤمنينَ من الدنيا بقدر إيمانهم وعملهم, ثم تكونُ لهم الآخرةُ خالصةً من دون غيرهم.  وأمَّا الأممُ الكافرةُ فإنَّ الله تعالى يفتحُ عليهم من كنوز الدنيا بقدْرِ جدِّهم فيها, حتى إذا كانت الآخرةُ لم يكن لهم فيها نصيب.  فهذه أُمَمُ النصارى كيفَ كان حالُهم قبل مائتي سنة, قبل أن يأخذوا بأسباب التفوق المادي؟ وهذه أمَّةُ اليابانِ كيفَ كانَ حالُهُم قبل مائة عام؟ بل أين كانت أمَّةُ اليهودِ قبل خمسين عاماً؟ فإنَّ العبرةَ كلَّ العبرةِ في خبرِهِم, فهم على قلَّتهم, وتفرُّقِهم في الأرض: أقبحُ شعوبِ الدنيا, وأرذلُ خلقِ الله تعالى, وأبغضُ الناسِ إلى الناس, حتى لا تكادَ تجدُ أحداً يُحبُّهُم, أو يستلطِفُهُم, فما زالوا منذ قرونٍ متطاولةِ يقاومونَ الفناء والإبادة, فقد تسلَّطت عليهم كثيرٌ من شعوبِ الدنيا بالقتل والتنكيل, في فترات متعددةِ من تاريخهم الطويل, ابتداءً بالفراعنةِ, والآشوريين, والكلدانيين, والرومان, والنصارى الأوائل, والمسلمون فيما بعد. ومروراً في العصور المتوسطةِ بالإنجليزِ والفرنسيينَ, والأسبانِ, والقياصرةِ في روسيا, حتى ختمَ الألمانُ آخرَ مآسي اليهود قبل ستين عاماً. ومع كلِّ هذه النكباتِ المتلاحقة, وأعمالِ الإبادةِ الجماعية والتنكيل, صمدَ اليهودُ أمامَ أسباب الفناء, وتحوصلوا وتشرذموا, وأخذوا بأسبابِ التمكين في الأرض – ضمن سنة الله تعالى – فعملوا وجَدُّوا, وخاضوا كلَّ مفازةٍ خطيرةٍ, وطريقةٍ حقيرةٍ: ليصلوا إلى مآربهم. فما انقضى القرنُ العشرونَ حتى أصبحَ لهم دولةٌ تتكلَّمُ باسمهم, وأصبحَ لهم كيانٌ يعمل بأمرِهِم. وأحرزوا مع ذلك قدْراً من التقدم المادي الذي يُؤهلُهُم للصَّفِ مع الدولِ المتقدمة, إلى جانب تنفُّذِهِم في كثيرٍ من سياسات الدول, ودخولِهِم في اقتصادياتِ العالم, ومواردِهِ الحيوية. كلُّ ذلك رغم ما كانوا عليه عبر غالب فترات تاريخهم من المهانة والاحتقار والضياع. فهم مع كل هذا لم يخرجوا عن سنَّةِ الله تعالى الذي أَذِنَ لهم بالتفوُّق في آخر الزمان, كما أن سنَّتَهُ لن تفوتَـهُم في إبادتهم على أيدي المسلمين من جديد, حين يكونُ المسلمون على مستوى دينهم: عقيدةً وسلوكاً. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (.

أقول هذا القول وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله الذي لا يُحمَدُ على مكروهٍ سواه, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن سيِّدنا محمداً رسول الله, صاحبُ المقام المحمود, والحوضِ المورود, والشفاعة الكبرى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فإنَّ الناظرَ في أحوالِ المسلمينَ اليوم يجد أن الأمة غيرُ جادةٍ في الأخذِ بأسباب النَّصرِ والتمكين, سواءٌ كان ذلك في أمر دينها, أو في أمر دنياها.  كما أنَّ الأسبابَ التي اُتخذت للإصلاح لا ترقى لحجم الانحرافات التي وصلت إليها الأمَّةُ في شؤون دينها, وشؤون دنياها. وما لم تتنبَّهِ الأمَّـةُ لحالها, وتتيقَّظْ للخطرِ فإنَّ تردِّيَ الأوضاعِ سوفَ يكون عامَّاً لا يكادُ ينجو منه أحد, خاصةً في السنواتِ القادمةِ التي يخطِّطُ فيها الغربيون واليهود للسيطرةِ الكاملةِ على اقتصادياتِ العالم, ومواردِ الطاقة, ووسائلِ الإنتاج والتسويق. وما سوف يرافقُ ذلك من السيطرةِ التامةِ على وسائلِ الإعلامِ والاتصال والدعاية.  بحيث يتحكَّمونَ في أرزاق الناس من جهة, ويصوغونَ فكْرَهُم وتوجُّهاتِهِم من جهة أخرى. دونَ أن يكونَ لأصحابِ الحق, أصحابِ الرسالةِ الخالدةِ أيُّ دورٍ يقومون به, سوى أن يكونوا أُجرَاءَ مخلصينَ لقوى التسلُّطِ والطغيان, يأتمرون بأمرِهِم, ويعملون في مصالِحِهم.

أيها الإخوة : لا تظنوا أن الله تعالى غافلٌ عن كيد هؤلاء, وإنما يُمهِّد لهم ضمن سنته, حتى إذا أخذهم لم يُفلتهم, كما قال في كتابه العزيز: ) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْـحَمْدُ لِلّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(. وهذه السنة لا تتحقق إلا حين يكون أولياء الله تعالى قد أفرغوا وُسْعهم في الأخذ بالأسباب, واستقاموا على أمر الله, وعندها يأتي الله تعالى بالفرج والتمكين.