الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الاقتصادية للفتاة @ 47- التخصص المهني بين الجنسين


معلومات
تاريخ الإضافة: 3/7/1432
عدد القراء: 1872
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

تتعارض المذاهب الاجتماعية المعاصرة ، وتتمارى "  على حساب أهوائها ومراميها في تقويم الجنسين ، بين قائل بالتشابه الكامل، وقائل بالفوارق والمزايا التي يقتضيها توزيع العمل ، واطراد الخلق في طريق التخصيص والامتياز "  ، فرغم وجود توجُّه ضد مبدأ المساواة والتماثل بين الجنسين : إلا أن الدعوة المعارضة له كانت ولا تزال أقوى وأمضى ؛ فمن "الثابت تماماً وعلى نحو لا يقبل الجدل والمناقشة : أن الأدوار التي قامت بها النساء في نهاية القرن العشرين قد تعرضت للتغير في جميع أرجاء العالم ، وهو تغير واضح تماماً وسريع للغاية " ؛ حيث انفتحت في وجوههن كل التخصصات المهنية التي كانت – في السابق- مغلقة دونهن، حتى إنه لم يعد ميدان من ميادين التنمية العامة أو الخاصة يُعدُّ بكرًا بالنسبة لهن؛ بل ربما اعتُبر التقسيم للوظائف على حسب الجنس : جريمة في حق المرأة، مما قرَّب الهوَّة بين الجنسين، وزاد في التماثل والتشابه بينهما، وعمَّق تداخل أدوارهما، خاصة بعد أن حلَّت الآلة الحديثة مشكلة الفروق العضلية بينهما، فلم يعد للرجال خصوصية تُؤهلهم للتميُّز المهني، ولم يبق أمام النساء عائق يمنعهن من اقتحام أيِّ ميدان أردْنه ، وأصبح المجتمع المعاصر في حاجة إلى وضع حدود جديدة لضبط الأدوار بين الجنسين، وتحديد هوية كل جنس، ودوره ومكانته في المجتمع.

ولم تنته قضية تماثل الأدوار المهنية بين الجنسين بالنسبة للنساء عند حدِّ الممارسة العملية، والتحدي الميداني، وإثبات الوجود ؛ بحيث تنحصر في حدود السلوك العملي؛ بل انتقلت إلى الميدان الفكري والدعوي؛ لتصبح تياراً أيديولوجياً مذهبياً ، يتخذ من دعوى "المساواة" قاعدة ينطلق منها في رفض كلِّ صورة من صور التمييز بين الرجال والنساء في الميدان المهني؛ بحيث يُعاملن كما يعامل الرجال مهنياً وإدارياً، بما في ذلك الأعمال الشاقة والوضيعة، مع أنفة نسوية شديدة ضد أيِّ قانون مهني يتلطَّف إدارياً في معاملة النساء، مراعياً حاجاتهن الأنثوية الخاصة؛ بحيث تنحصر كل الفروق التي يمكن أن تُناقش بين الجنسين في نطاق اختلاف أشكال الأعضاء التناسلية فحسب.

ورغم شذوذ هذا التوجه، ووضوح انحرافه عن الحقيقة الإنسانية، فإنه – مع ذلك – يلقى دعماً عالمياً من بعض المنظمات الرسمية، والجمعيات السرية المشبوهة ، تحت ستار دعوى "المساواة"، التي يُراد لها أن تقوم بين الرجال والنساء على غير أساس منطقي، مما أوجد لدى المرأة المسلمة – من خلال التأثير العالمي والانفتاح – وعياً زائفاً بهذا المبدأ الأجوف، حتى إن إحداهن تزعم أن الإسلام أعطى للمرأة حق العمل في جميع المهن المباحة مثل الرجل تماماً، في الوقت الذي شهد فيه العالم أجمع ، من خلال الواقع المعاصر بزيف هذه الدعوة، وغيابها الكلي عن الحقيقة المنطقية، وبُعدها الكامل عن الواقعية التطبيقية، كما شهد العالم أيضاً بهذه الحقيقة الإنسانية في أقوى صورها – بعيداً عن بهرج الحضارة المعاصرة، ودعاواها الإعلامية الخادعة – من خلال الحقيقة التاريخية لواقع الممارسات الإنســـانية عبر حقب الزمان الماضية ، التي تصرخ – من خلال الأخبار والوقائع والآثار – برفض مبدأ المساواة المطلقة بين الجنسين؛ سواء في الطبيعة الفطرية والمكانة الاجتماعية، أو في الأدوار المهنية التي كان الجنسان يضطلعان بها، حتى إن المجتمع الفرعوني الذي يُعدُّ ألطف المجتمعات الجاهلية بالمرأة : لم يرض أهله حين ملَّكوا عليهم  امرأة منهم : أن تظهر الملكة في الصور والرسوم بهيئتها الأنثوية، حتى رسموا لها لحية، يؤكِّدون بها – بصورة غير مباشرة – مكانة الرجل على المرأة.

وأعجب من هذا أن المجتمع اليهودي الجاثم على أرض فلسطين - رغم ما يدَّعيه من المساواة بين الجنسين - لم يسمح للمرأة بأن تكون حاخاماً، أو منشدة، أو قارئة في المعبد، إلا في السنوات الأخيرة من القرن العشرين الميلادي.

إن الحقيقة الإنسانية تدل – بقوة تفوق الظنون – على أن التخصص المهني مبدأ فطري، وواقع يصعب تجاهله، ليس فقط على مستوى الجنسين؛ بل يتعداه إلى الجنس الواحد ؛ بحيث لا " يتفق أبداً أن يكون كل إنسان يصلح لكل عمل، ولكل صناعة " , فكيف إذا اختلفت المواهب والميول، والاستعدادات الجسدية والنفسية ؟ بل كيف إذا اختلف الجنس، وتنوَّعت الوظائف الفطرية، حين لا يمكن التشابه أو التطابق إلا على حساب أحد الجنسين على الآخر؛ إما بتأنيث أدوار الرجال، أو تذكير أدوار النساء؛ بحيث يفقد اختلاف الجنس كل حقيـقــة له عدا الحقيقة التناسلية، أو بمعنى آخر: "تخنيث أدوار الرجال والنساء معاً، بحيث تتشابه أدوارهما في مجالات النشاط: العقلي، والنفسي، والسياسي، والمهني، ويتكاملان فقط في المجالات التي تفرضها الفروق التشريحية بين الجنسين " ، وهذه الوجهة هي المقصودة من مفهوم : " الجندر " ، الذي يدعو صراحة إلى رفض كل معنى للتمييز بين الجنسين، حتى في الضمائر اللغوية، التي توحي بالذكورة أو الأنوثة، مما دفع بعض المنظمات النسائية المتطرفة عام 1994م إلى تعديل بعض ألفاظ الإنجيل؛ لتخلو من الضمائر الموحية بنوع الجنس.

ولما كانت أدوار الإناث تحمل طابع التَّميُّز الجسدي المشهود ، الذي يستحيل على الرجال ادعاء قدرتهم القيام بمثلها ؛ فإن أدوار الرجال – رغم اختلافها – لا تحمل خصوصية جسمانية تميزها ، مما جعل ادعاء صفات الرجولة أيسر على النساء من ادعاء الرجال صفات الأنوثة ؛ بحيث ينحصر صراع الأدوار المهنية ودعوى المساواة "  في اقتسام ذكورية المجتمع ، مما هو إمعان في إلغاء الأنوثة ، وإمعان في إجبار المرأة على الاسترجال "  ، وبالتالي فلن يكون ذلك في صالح عنصر الأنوثة ، بقدر ما هو في صالح عنصر الذكورة .

إن الوظيفة التناسلية بثقلها الفطري تلحُّ على المرأة بالتميُّز المهني من جهة : النوع والزمن والجهد ، في الوقت الذي لا تكلِّف هذه الوظيفة الرجال شيئاً من ذلك ، فإذا رامت المرأة المساواة المهنية فإن طريقها الوحيد هو التخلي عن الزواج والوظيفة التناسلية ، أو من خلال ثورة بيولوجية ، أو مخترع صناعي ، يقوم نيابة عن المرأة بالحمل والإنجاب ، ليخرج الأطفال من أرحام الأجهزة ، كما يخرج الدجاج من آلات التفريخ ، فبقدر انفلات المرأة من النسل وحاجاته ، والزواج وتبعاته : يتحقق لها نجاحها في العمل المهني ، وتقرب – بعض الشيء – من المساواة المنشودة ، حين لا يكون قد بقي لها من معالم الأنوثة إلا صورة مفرَّغة من كل تميِّز جنسي وظيفي ، فلا يبعد – والحالة هذه – أن يحصل تبادل وظيفي بين الجنسين ؛ فالمرأة منطلقة عاملة مكافحة ، والرجل ملتزم بالبيت ، لتربية الصغار .

وعلى فرض ترجُّل النساء، وإعراضهن عن مبدأ الزواج ، وتخليهن بالتالي عن وظيفة النسل ورعايته ؛ فإن الفروق الفطرية في الطبيعة النفسية ، والقوى الجسدية ، والميول العقلية والمزاجية : تلحُّ - هي الأخرى بصورة دائمة وفي كل عصر – بثقلها الطبيعي ، وإصرارها الفطري على تمييز أدوار النساء المهنية عن أدوار الرجال ، وتخصيص ميادينهن عن ميادينهم ؛ فميولهن العقلية تدفعهن إلى التوجه النظري ، والميدان الأدبي ، والعمل الفني والاجتماعي ،
رغم الدعم الثقافي المعاكس ، وطبيعتهن النفسية تفرض عليهن سماتها السلبية، رغم اشتراكهن مع الرجال في معترك الحياة المعاصرة، وقواهن الجسدية – هي الأخرى – تلحُّ بالتمايز النوعي كأقوى ما يكون ؛ ابتداء من اختلاف تركيب الخلية الأنثوية ، وانتهاء بقوة الحركة في الذكور ، حتى في المرحلة الجنينية ، وتفوقهم عليهن في غالب المهارات الجسدية ، التي تفتقر إلى السرعة والقوة، وبين ذلك من الاختلافات التي تشمل : خصوصية الدماء الطبيعية ، وصفة حركة الدورة الدموية ، وقوة وحجم العظام ، وحجم الدماغ، وسماكة الجلد والشعر ، ووزن الجسم وطوله، وقوة العضلات ، حتى طريقة التنفس، مما لا يدع مجالاً للشك بتفوق الذكور الجسدي، واختلافهم عن الإناث في كل ذلك ؛ ولهذا جاءت غالب قوانين العالم المهنية تراعي ذلك منهن ، بما يتوافق مع طبيعتهن ، وحدود قدراتهن ؛ حتى يتمكنَّ – على أي وجه كان – من مجاراة الحياة المهنية خارج البيوت ، وقد أكَّد الاستطلاع العام ميل النساء العاملات ، والمؤهلات علمياً إلى الوظائف الأقلَّ جهداً ووقتاً، وما زال العالم المعاصر – رغم التداخل بين الجنسين في السلوك والصفات – يفرِّق في المهن بين الجنسين، ويقسِّمها حسب النوع ، إضافة إلى وجود اختلافات واضحة في نوع الميول والرغبات المهنية بين الجنسين ، أما الشذوذ في قدرات بعض النساء ؛ فإنه لا يخرجهن عن حكم القاعدة الاجتماعية العامة؛ فإن الطبيعة الإنسانية قابلة للتطور والتغيُّر ، وممارسة الصناعات المختلفة، وتعاطي المهارات المتنوعة : لها انعكاساتها على مزاج البدن ، والدربة على المسلك الصعب تُكسب صاحبها – ذكراً كان أو أنثى – قوة واستعداداً خاصاً، فكم من امرأة فاقت كثيراً من الرجال ؛ بل وكم من صبي فاق العديد من الرجال ، إلا أن كل هذا لا ينقض القاعدة العامة ، ولا يزحزح أساسها ؛ فالنادر لا حكم له ، يقول ابن عاشور – رحمه الله - : " إن ملاك الأحكام التي تبنَّت فيها التفرقة بين الرجال والنساء ، هو الرجوع إلى حكم الفطرة ، فإذا كان بين الصنفين فوارق جبليِّة من شأنها أن تؤثر تفرقة في اكتساب الأعمال أو إتقانها : كانت تؤثر تفرقة في أسباب الخطاب بالأحكام الشرعية ، بحسب غالب أحوال الصنف، ولا التفات إلى النادر ؛ فلا عبرة بالمرأة المسترجلة ، كما لا عبرة بالرجل المخنث ، فكما حُرمت المرأة من الجهاد، حُرم الرجل من الحضانة "  ، وليس  في ذلك مذمَّة لأحد الجنسين ؛ بل هما متساويان في التقدير والاحترام ، إلا أن هذا التساوي لا يسري على النوع ؛ فهما جنسان مختلفان ، يتجاوز اختلافهما الوظيفة الفيزيولوجيــــة إلى عمق التركيب النفسي ، وإلى ما هو أبعد من ذلك.

إن هذا الوضع العام يدل بقوة على أن الجنسين لم يُخلقا ليتسابقا في مضمار واحد ، وأن الإناث هُيِّئن بالفطرة لميدان غير ميدان الرجال ، ولمهام تختلف عن مهامهم ؛ فقد غلبت صفة الذكورة على الأعمال والمهام الخارجية ، كما غلبت صفة الأنوثة على الأعمال والمهام الداخلية ؛ بحيث يتكامل الجنسان في الأعمال ، فلا يتعارضان ولا يتنافسان لتنوع المهن ؛ فإن مهمة الخلافة في الأرض بقدر ما تحتاج إلى كل الجهود الإنسانية ، فإنها تحتاج أيضاً بنفس القدر إلى التنوع في هذه الجهود ، وتحتاج بصورة أخص إلى التنوع الذي يفرضه الجنس ، فالكل يؤدي دوره ومهمته الإنسانية حسب نهج هدايته الربانية ؛ ولهذا لما مالت السيدة عائشة – رضي الله عنها – إلى الجهاد الذي خصَّ الله – تعالى – به المؤمنين من الرجال وقالت : " يا رسول الله ، نرى الجهاد أفضل العمل ، أفلا نجاهد ؟ قال : لا ، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور"، فلا مجال هنا للمفاضلة بين الجنسين بناءً على الوظيفة التي يقوم بها  كل منهما ، ما دام أنه يقوم بما أوجبه الله عليه ، فالاختلاف بينهما "  لا يحمل في ذاته معنى المفاضلة ؛ إنما يشير إلى الخصوصية ، التي يتصف بها كل منهما"، وإنما النسق القيمي السائد في المجتمعات الصناعية الحديثة هو الذي أعطى لمهام الرجال قدراً ، وأهمية أعظم مما أعطى لمهام النساء ، مما دفع بعضهن لاحتقار أدوارهن الاجتماعية ، والتطلُّع لأدوار الرجال .

ولعل مما يوضِّح وضع المرأة في الحياة العامة ، في نظام الاجتماع الإسلامي : مسألة الشهادة ، فالنساء مهما بلغن من العدد لا تصح شهادتهن في الأموال حتى يكون معهن رجل ، فالحاجة إلى الرجل لإنفاذ الشهادة قائمة لا بد منها ، وقد تواترت الرواية عن رسول الله  في آية الدَّيْن في سورة البقرة بلفظ : ﴿فتذْكر﴾ بسكون الذال ، وهي من القراءات السبع المتواترة ، يعني : "إذا شهدت المرأة على شهادة ، ثم جاءت الأخرى فشهدت معها : أذْكرتها ، أي جعلتها ذكَراً ؛ ... يعني صارت المرأتان كذكر "، وهكذا المرأة في الشأن العام لا تقوم بنفسها ، وإنما تحتاج إلى غيرها معها ؛ لذا لا يكون من المنطق – والنظرة الشرعية هذه – أن تتماثل أدوار الجنسين ، وتتطابق مسؤولياتهما في المجتمع .

إن منطلق العقل يشير إلى أن اختلاف الأسماء دليل على اختلاف المسميات ، فهذا رجل وهذه امرأة ، والله – تعالى – يقول: …    …  ، فليس كل مهمة تصلح أن يقوم بها الجنسان معاً ، فهذه امرأة عمران تعتذر لربها عن نذرها حين وضعت أنثى ، لا تصلح لمهمة عامـــة في بيت المقــــدس، فإذا كان الكل يقرُّ بأن الرجل – مهما بلــغ –
لا يستطيع أن يقوم بوظيفــة امرأة ، فلماذا لا يقرُّون – بنفس القوة أو قريباً منها – بأن المرأة لا يمكن أن تقوم بوظيفة رجل ؟

إن الضابط التخصصي للعمل المهني في التصور الإسلامي
لا يقبل ابتداءً الطريقة الغربية في جعل المهن خلطة بين الجنسين ، فلا يبالي أيُّهما قام بالمهنة ؛ فإن توظيف النساء ليس بهدف في نظام الاقتصاد الإسلامي ، ولكن يُنظر ابتداءً إلى مدى افتقار المهنة للعنصر النسائي ؛ بحيث يتعذر – شرعاً أو عرفاً – انتداب الرجل للقيام بها ، فعندها يسمح للمرأة بممارستها بقدر الحاجة، ضمن الضوابط الشرعية العامة ؛ بحيث يبقى مبدأ التخصص ضابطاً قائماً بين الجنسين في توزيع الأعمال المهنية ؛ بل لو قيل : إن عمل الرجل غاية في حدِّ ذاته، وعمل المرأة وسيلة لتحقيق مصلحة المجتمع لما بعد هذا عن الحقيقة؛ فإن الدولة المسلمة حين تهيئ العمل للرجل ، تهدف – بالدرجة الأولى – إلى تحقيق مصلحته الشخصية ، في مساعدته على القيام بواجباته العائلية المنوطة به ، مع ما يتحقق بعد ذلك من مصالح للمجتمع ، وأما حين تسمح الدولة للمرأة بالعمل ، فإنها تسعى – بالدرجة الأولى – إلى تحقيق مصلحة المجتمع ، التي لا تتحقــق إلا بتمكين بعض النساء من الأعمال ، التي لا يمكن أن يقوم بها غيرهن ، ضمن ما يُسمى بفرض الكفاية .