14- جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري

- أيها المسلمون : في يوم من أيام منى قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بايع سبعون رجلاً وامرأتان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم.

- ومن بين هؤلاء المبايعين صبيٌّ صغير يرافق أباه ، ويحضر هذا الموقف العظيم، إنه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنه.

- نشأ مع تسع أخواتٍ له ، وقد ماتت أمُّه ، وكان هو وأبوه يقومان على البنات : رعاية وتربية .

- وكثيراً ما كان يتخلَّف عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب رعاية أخواته ، فقد كان أبوه يأمره بالتخلُّف معهن، والقيام برعايتهن.

- وقد كان مُتشوِّقاً مُتَحرِّقاً للقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه لم يجد بداً من طاعة أبيه ، ورعاية أخواته.

- ولما استُشهد أبوه عبد الله رضي الله عنه يوم أحد لم يتخلَّف بعد ذلك عن غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى حضر ثماني عشرة غزوة ، وبيعة الرضوان.

- في إحدى غزواته مع الرسول صلى الله عليه وسلم في طريق العودة مرض جمله فأبطأ المسير، فجاءه الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذ بالجمل فإذا هو أسرع ما يكون، فاشتراه الرسول صلى الله عليه وسلم.

- واشترط جابر رضي الله عنه على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسلِّمه الجمل في المدينة، فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم حين وصل إلى المدينة يعطيه الثمن والجمل.

- وفي الطريق أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يحدِّث جابراً ويسأله عن زواجه، فقد تزوج ثيباً لرعاية أخواته، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يستغفر له خمساً وعشرين مرة.

- وفي أثناء حفر الخندق بلغ الناس جهد شديد وجوع، حتى كانوا يربطون الأحجار على بطونهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يربط الحجرين على بطنه.

- فلما رأى جابر رضي الله عنه الجهد الذي أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم صنع طعاماً له ولبعض أصحابه ثم دعاه، فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يصيح في أهل الخندق كلِّهم يدعوهم إلى الطعام.

- فكانت المعجزة فإذا بكل هؤلاء يأكلون ويشبعون من طعام قليل ببركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم.

- أيها الإخوة : اشترى يهودي ثمار بستان جابر رضي الله عنه ، ولم يتمكَّن جابر من جدع الثمار وتسليمها لليهوي ، واليهودي مُصِرٌّ على التسليم في الوقت دون تأخير .

- فلما بلغ الخبر الرسول صلى الله عليه وسلم جاء يتوسط بينهما ، فأخذ يُلح على اليهودي بالانتظار، واليهودي يأبَى ذلك.

- فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم في عريش بالبستان وأكل من ثماره ، ثم نام قليلاً ، ودعا لجابر بالبركة ، ثم خرج.

- فإذا بجابر رضي الله عنه يُوفَّق لتوفية الرجل حقه بالكامل ، مع زيادة كبيرة ببركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم.

- وفي مرة بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن جابراً رضي الله عنه قد مرض فعاده الرسول صلى الله عليه وسلم ، فوجده مغمىً عليه لا يعقل ما حوله ، فتوضأ ثم صب عليه من وضوئه فأفاق.

- وقد كان جابر رضي الله عنه من أحرص الصحابة على العلم ، فقد كان من فقهاء الصحابة ورواة الحديث، فقد روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم ألفاً وخمسمائة حديث، وهو أوثق وأطول من روى حديث الحج المشهور.

- وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان من المُفتين بالمدينة ، وكانت له حلقة يعلم فيها الناس، ويُفتيهم.

- ومن أعجب ما يُروى عن جابر في حرصه على العلم أنه سمع الناس في المدينة يتناقلون خبر القصاص يوم القيامة، وينسبون الخبر إلى الصحابي عبد الله بن أنيس رضي الله عنه الذي انتقل إلى الشام.      

- فإذا بجابر رضي الله عنه يشتري راحلة ويشد عليها متاعه، ويسافر إلى الشام شهراً كاملاً حتى وصل إلى منزل عبد الله بن أنيس رضي الله عنه.

- فدقَّ الباب فخرج له البواب فقال: « قل له جابر، فقال: جابر بن عبد الله؟ قال: نعم »، فأخبر عبد الله فخرج مُسْرعاً فاعتنقه.

- فقال له جابر رضي الله عنه: « حديث بلغني عنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أسمعه في القصاص، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه، فقال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله العباد أو قال : الناس عراة غرلاً بُهماً ، قال: قلت : ما بُهماً ؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده مظلمة ، حتى أقصَّه منه حتى اللطمة، قال: قلنا: كيف ذا وإنما نأتي الله غرلاً بهماً ؟ قال : بالحسنات والسيئات ، قال: وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ "».

- فما أن سمع جابر الخبر من عبد الله رضي الله عنهما حتى عاد أدراجه إلى المدينة ولم يمكث بالشام.

* * *

- أيها الإخوة : لقد عمَّر جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أربعاً وتسعين سنة، قضاها في الجهاد والعلم والتعليم ، حتى كُفَّ بصره في آخر عمره.

- مات رضي الله عنه سنة 98هـ ، وكان آخر من مات ممن شهد بيعة العقبة الثانية .

- لقد عاش حياته مسالماً لا يؤذي أحداً ، فقد مات في زمن الحجاج بن يوسف ، فصبر على ظلمه.

- حجَّ في آخر عمره وقد كفَّ بصره، فأخبره الناس عن توسع أهل السلطان في ملابسهم وزينتهم وظلمهم، فقال رضي الله عنه : « ليت سمعي قد ذهب كما ذهب بصري، حتى لا أسمعَ من حديثهم شيئاً ولا أُبصرُه ».

- يقول ذلك خشية من مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من سمع أو رأى فقد وجب عليه الإنكار والتغيير، فكره رضي الله عنه المسؤولية.