الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ تراجم وشخصيات @ 13- أنس بن مالك


معلومات
تاريخ الإضافة: 18/8/1429
عدد القراء: 1266
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

- أيها المسلمون : في أعظم يوم من أيام المدينة المنورة حين قدم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً ، فأضاء كلُّ ما فيها ، وفرح الناس بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- فأخذ الناس من الرجال والنساء يتوافدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلِّمون عليه، وينظرون إلى طلعته البهية.

- وأخذ الناس يقدِّمون خدماتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلٌ منهم يريد أن يتحفه بشيء من مسكن أو طعام أو لباس.

- وكان من بين الوافدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة بيدها ولد صغير يتيم في العاشرة من عمره، إنها الرميصاء أم سليم بنت ملحان رضي الله عنها.

- وأما الولد فهو أنس بن مالك بن النضر الخزرجي الأنصاري، جاءت به أمُّه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالت: « يا رسول الله، لم يبقَ رجل ولا امرأة من الأنصار إلا وقد أتحفك بتحفة، وإني لا أقدر على ما أُتحفك به إلا ابني هذا فخذه، فلْيخدمْك ما بدا لك »، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمة أنس له، وكانت هذه اللحظة المباركة بداية ارتباط هذه الأسرة بالرسول صلى الله عليه وسلم.

- فقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل عليهــم فيجلس عندهـم ويأكل، وربما نام على فراش أم سليم، حتى إنها لتجمع عرقه في قارورة تبرُّكاً بآثاره.

- وربما داعب الرسول صلى الله عليه وسلم ولدها الآخر فيقول له: « يا أبا عمير ما فعل النُغَير».

- وكثيراً ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل بستان أبي طلحة رضي الله عنه ، وهو زوج أم سليم رضي الله عنها ، ويشرب من ماءٍ بارد فيها، ثم تبرع أبو طلحة بهذا البستان لله تعالى.

- بل ربما زار الرسول صلى الله عليه وسلم جدَّة أنس مُليكة رضي الله عنها ، فأكل عندها ، وصلى بها وبأنس جماعة ، صلاة النافلة ضحىً.

- لقد ارتبطت هذه الأسرة المباركة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتزجت به في سفره وإقامته، حتى إنها كانت تخرج بكاملها في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم.

- فأنس في خدمته ، وأبو طلحة زوج أمه في المقاتلة ، وأم سليم في طهي الطعام ورعاية الجرحى.

- ولقد كان أنس رضي الله عنه ملتصقاً بشخص النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في داخل بيته وخارجه، فقد كان صغيراً يدخل على نساء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

- وربما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يخصه ببعض أخباره الخاصة ، التي تكون بينه وبين أزواجه، فهو الذي نقل خبر طواف النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على نسائه بغسل واحد.

- ولقد كان من أشد الأيام عليه حين بلغ فاحتلم ، فحجبه الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنعه من الدخول على نسائه ؛ لأنه قد أصبح رجلاً.

- كان يمضي يومه كلَّه مع الرسول صلى الله عليه وسلم وفي خدمته، فإذا أوى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته للنوم، رجع أنس إلى أمه.

- وفي ذات يوم تأخر عن أمه على غير عادته ، فقالت له : «ما حبسك؟ قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة له، قالت: وما هي؟ قال: سرٌّ، قالت: احفظ على رسول الله سرَّه »، وبقي هذا الأمر سراً حتى مات أنس رضي الله عنه.

- وكثيراً ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يداعبه ويلاطفه فيقول له: « يا ذا الأذنين » ، وربما عانى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من بعض ما يصدر منه لكونه كان طفلاً.

- فيقول أنس رضي الله عنه، يحكي هذه الحادثة : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال: فخرجت حتى أمرَّ على الصبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله».

- وعلى الرغم من أنه قابل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعبارة قاسية : « والله لا أذهب » ، وهذا مما يصدر كثيراً عن الأطفال، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قابله بالحلم والصبر، ولهذا كان أنس رضي الله عنه يقول: «خدمته عشر سنين، فما ضربني ولا سبني، ولا عبس في وجهي».

- وكانت أم سليم رضي الله عنها تتحيَّن فرصة قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم عليها فتطلب منه الدعاء لأنس، فدعا له: « اللهم ارزقه مالاً وولداً وبارك لَهُ ».

-  فكان أنس رضي الله عنه بعد ذلك من أوسع وأغنى الناس ، وقد زاد أولاده من صلبه على المائة، ودفن منهم خلقاً كثيراً.

- وكان له بستان يطرح الفاكهة مرتين في السنة، وربما دعا زمن القحط فتأتي السحابة فتسقي بستانه وتذهب.

- وقد عمَّر حتى تجاوز المائة، ولم ينكر من عقله شيء، وكان رامياً لا يكاد يخطئ، فقد خرج مرة على أولاده وهم يرمون ولا يحسنون الرمي ، فقال لهم: «يا بَنِيَّ بئس ما ترمون»، ثم أخذ القوس ورمى فما أخطأ الهدف.

- وكان أشبه الناس صلاة بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان كثير العبادة ، يقوم حتى تتفطَّر قدماه بالدم، وكان يحيي ما بين العشاءين بالصلاة.

- لم يتولَّ من الولايات شيئاً إلا أنه كان مبعوث أبي بكر رضي الله عنه على زكاة أهل البحرين، وقد كان شاباً صغيراً إلا أنه لبيبٌ كاتب.

- من عِظَمِ حبِّه وطاعته للرسول صلى الله عليه وسلم أنه سمع منه قوله: « البُصاقُ في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها »، فتنخَّم مرة في المسجد، ونسي أن يدفنها حتى كان الليل، ثم تذكَّر فأخذ شعلة من نار يستضيء بها، وبحث عن النخامة في المسجد حتى وجدها، فدفنها طاعة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

* * *

- أيها الإخوة : لم تكن حياة أنس سهلة رغم ما كان فيه من سعة الرزق وكثرة الولد والصحة .

- فقد عاش في وسط التابعين ، حين مضى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق ممن صلى إلى القبلتين إلا هو.

- وكان يقول : « لم يبق أحد ممن صلى إلى القبلتين غيري ».

- ويقول: « لقد بقيت حتى سئمت الحياة ».

- وقد ابتلي في ولده فأصيب أكثرهم بالطاعون، ودفن منهم مائة.

- كما أصيب في نفسه بالأذى من الحَجَّاج بن يوسف الذي كان والي العراق، وكان أنس بالبصرة.

- فكان يضيِّق عليه ويؤذيه، وربما تجرَّأ عليه بقبيح القول، لا يقدِّر مقامه وسابقته وكبر سنه.

- فلما اشتد به أذى الحجاج كتب إلى الخليفة عبد الملك بن مروان يشكوه إليه، فكتب يقول: « إني خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين، والله لو أن النصارى أدركوا رجلاً خدم نبيهم لأكرموه ».

- فكتب عبد الملك للحجاج ليعتذر منه ، ويكف أذاه عنه .

- كان رضي الله عنه لا تفوته ليلة إلا ويرى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فيبكي لذلك ويشتاق .

- حتى إذا كانت الوفاة أوصى بشعرة من شعرات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصا له تدفن معه، فمات بالبصرة بعد أن تجاوز المائة.

- وخلَّف جمعاً كبيراً من التلاميذ ينقلون عنه أكثر من ألفين ومائتي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- لقد عاش أنس رضي الله عنه مسالماً لا يؤذي أحداً ، يفعل الخير ، ويترك الشر ، ومع ذلك لم يتركه الأشرار حتى ضيَّقوا عليه في آخر حياته.

- هذا أنس أيها الإخوة تلميذ من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأحبوه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحبُّه.