الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية السياسية @ 6 – حبُّ الرئاسة والقيادة


معلومات
تاريخ الإضافة: 18/8/1429
عدد القراء: 842
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

- أيها المسلمون : تمتلئ النفسُ البشرية بالشوائب الموحشة ، والشهوات المهلكة ، والنواقص المخجلة ، ولا ينجو من ذلك إلا القليل.

- أمراض فتاكة ، وضلالات مظلمة ، وشبهات محيرة : تملأ النفس البشرية ، حتى تفسدَها ، وتردَّها وترديها.

- ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بأحكامها وآدابها لتهذِّب النفس الإنسانية ، وتخلِّصها من أمراضها وشوائبها.

- فكم همُ المرضى الذين أصلحهم هذا الدين وهذَّبهم ، وارتقى بهم من دركات الانحطاط، إلى درجات العلو والسمو؟!

- وكم همُ الهلكى الذين أنقذهم هذا الدين ، فرفع مقامهم بعد سقوط ، وأعلى من شأنهم بعد هبوط؟!

- " أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا...".

- أيها الإخوة : إن من أعظم الشهوات التي تفسد النفس ، وتطفئ نور العقل، وتُضلُّ السلوك : حبَّ الرئاسة والتعلق بها.

- حتى إنك لترى الرجل السَّوي في سلوكه وخلقه : ما أن ينال رئاسة ، أو يحوزَ منصباً حتى يتحوَّل إلى شخص آخر.

- فقد يتحوَّلُ من صالح إلى فاسد ، ومن تقيٍّ إلى شقيٍّ، ومن صديق إلى عدو، لقد فعل فيه المنصب فعله.

- إن للرئاسة بريقها الفاتن، وحلاوتها السَّامة، ولذتها المهلكة، يُفتن بها السفهاء من ضعفاء القلوب.

- حتى إن أحدهم ليشعر بنشوة الرئاسة ولذَّتها ، كما يشعر المخمور بلذة الخمر ونشوتها.

- وقد قيل : « إن للرئاسة سكرةً كسكرة الخمر »، يعني : أن المنصبَ يفعل فعله في المتعلِّق به كفعل الخمر بشاربها.

- وما من أحد نالَ منصباً ، وترأس على الناس : إلا دخل عليه النقص في دينه وخلقه ، بقدر تعلُّقه بهذا المنصب ، وحبِّه إيَّاه.

- فتراه في إدارته منصبه لا يبصر من المصالح إلا ما يُؤيِّد بقاءه في منصبه ، ويعزز موقعه في إدارته، ويدعم نجاحه في عمله.

- حتى وإنْ رافق ذلك كذب وغش وتزوير ، وربما ظلمَ الموظفين عنده والعمال ، فهو لا يرى لأحد حقاً إلا لولي نعمته ، الذي بيده قرار بقائه أو ذهابه.

- فتراه مع رئيسه الذي أتى به إلى هذا المنصب : في غاية الذُّل والسكون والخشوع ، لا يرفض له طلباً ، ولا يخالفُهُ في رأي.

- لا يُبالي بالأمر في حلال أو في حرام ، في حق أو في باطل ، ما دام أنه صادر عن ولي نعمته، الذي كان سبباً في ترؤُّسه وبقائه في منصبه.

- وهذه صورة عامة غالبة في إدارات العمل ، لم ينجُ منها إلا شخصان : شخص تقي صالح يخاف الله تعالى، يمنعه دينه عن النفاق والظلم، وشخص آخر مستغنٍ عن العمل ، لا يبالي برضا رؤسائه ، وغيرُ ذلك قليل نادر، لا يكاد يُوجد.

- أيها الإخوة : إن الناس لا يمكن أن يعملوا في المجتمع بغير قيادات تقودهم ، وإدارات تجمعهم.     

- فأمر الله تعالى القادة الإداريين بالعدل والرفق والجد ، وأمر العمال بالطاعة في المعروف، والقيام بواجب العمل.

- فهذا هو عقد الشراكة الذي أمر الله به بين الرئيس والمرؤوس ، الكل يؤدي ما أوجبه الله تعالى عليه، فالكل تحت سلطان الله تعالى.

- وما أذن الله لرئيس – أياً كان – أن ينفرد برأيه فيفعل ما يشاء، حتى الأنبياء عليهم السلام ؛ إنما ينطلقون من أمر الله تعالى.

- فهذا نبي الله داود عليه السلام يقول الله تعالى له : " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ".

- ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « إن الله تعالى سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعاه ، أَحَفِظَ ذلك أم ضيَّعه، حتى يُسأل الرجلُ عن أهل بيته ».

- ويقول صلى الله عليه وسلم : « ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك ، إلا أتى الله مغلولاً يدُهُ إلى عنقه، فكَّه برُّه، أو أوثقه إثمه ».

- ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في تولية غير الأكْفاءِ: « من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه : فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ».

- وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً أن لا يولي شيئاً من شؤون المسلمين للحريصين على الولاية وكان يقول: « إنَّا والله لا نولِّي هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه»؛ لأن الحريص على الولاية إنما جاء ليحقق مصلحة نفسه، وليُشبع شهوته من الرئاسة والقيادة.

- اللهم ولِّ علينا خيارنا ، واكفنا – يا ربنا – شر أشرارنا.

* * *

- أيها الإخوة : إن الرئاسات – الصغيرة والكبيرة – نوع من البلاء والفتنة ، يختبر الله بها الناس، ينظر إلى أحدهم : أيعدل أم يظلم؟

- وإن الظالم حين يظلم في سلطانه ، إنما هي غفلة – غَفَلَها عن الله تعالى ، ومكرٌ مكر الله به، حتى ينتقم منه.

- ولهذا كان غالب السلف يتجنَّبون الرئاسات بأنواعها ، وإن كان غالبهم أهلاً لها، وما ذلك إلا لخوف التقصير والخطأ والفتنة.

- حتى إن بعضهم ضُرِب وسُجِن على أن يتولى القضاء فأبى واختار السجن والضرب على الولاية.

- فأين هؤلاء الأتقياء النجباء من الحريصين على الرئاسات من أهل زماننا ؟

- ما يكاد أحدهم يتولَّى منصباً حتى تنهال عليه برقيات وخطابات التهنئة بالمنصب، ولو صدقوا في حبِّهم له لكانت تعزيته بالمنصب أولى من تهنئته به.

- والله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.