الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية العبادية @ 22- درس الجوع في رمضان


معلومات
تاريخ الإضافة: 9/8/1429
عدد القراء: 1273
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

-  أيها المسلمون : إن لرمضان دروساً تربويةً عظيمةً تدخل في بناء شخصية المسلم ، وتكوين خُلُقه .

-  إلا أن درساً تربوياً مهماً من دروس رمضان نغفل عنه وننساه ، بل ربما سعينا لمحو آثاره من نفوسنا أولاً بأول .

-إنه درس الجوع, الذي كان يتلذذ به سلفنا الصالح, كما يتلذذ أحدنا بأكل اللحم والحلوى.

-  كانوا يتلذذون ويتفننون في دفع الشِّبع عن بطونهم ، كما يتلذذ أحدنا بدفع الجوع عن بطنه .

-  إن في الجوع رقة القلب ، ودمع العين ، وصفاء العقل ، ونفاذ البصيرة ، وطولَ العبادة ، وقلَّة النوم .

-  فمن ملك بطنه: ملك نفسه ، ومن ملك نفسه: ملك أخلاقه ، ومن ملك أخلاقه : ثقل ميزانه يوم القيامة .

-  إن قلَّة الطعام تُورث صاحبها الانكسار والتواضع ، وتذهب عنه الأشر والبطر والكبر، وتذكِّره بالفقراء والمساكين .

-  إضافة إلى الصحة العامة ، والسلامة من أمراض التخمة والشِّبع ، التي تفتك بصاحبها ، وربما قتلته .

-  أيها الإخوة : البطن ينبوع الشهوات ، وبيت الداء والآفات ، يتقوَّى الشيطان بامتلائها , فيجري في الإنسان مجرى الدم ، وما أُتي آدم عليه السلام، فأخرج من الجنة ، ولقي ما لقي إلا من جهة الأكل ، وهي فتنة ذريته من بعده ، يُفتنون ببطونهم ، ماذا يقذفون فيها , بين قليل وكثير ، وحلال وحرام؟ .

-  جاء أبو جُحيفة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد شبع من لحم وسمن ، فتجشَّأ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : « اُكفف عنا جشاءك أبا جحيفة ؛ فإن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولُهم جوعاً يوم القيامة » ، فما شبع أبو جحيفة بعدها .

-  وكان الصحابة – رضي الله عنهم - يُعيِّرون الرجل السمين ، يعاتبونه على كثرة الطعام ؛ ولهذا قلَّ السمن في الصحابة, وإنما هو من معائب أهل آخر الزمان .

-  تقول عائشة رضي الله عنها : « أول بدعة حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشِّبع ، إن القوم لما شبعت بطونُهم جمحت بهم نفوسهم إلى هذه الدنيا » .

-  ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم  يقول: « ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يستره ، وثوب يواري عورته, وجـِلْفُ الخبز والماء » .

-  وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة في ذلك ، فقد لازمه الجوع طول حياته حتى قبض ، فما شبع من طعام قط ، ولا رأى مُنخلا ، ولا خبزاً مُرقَّقاً ، ولا رأى شاة مشوية قط ، وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع ، ويُعرف أثر الجوع في وجهه وصوته .

-  يقول عُمَرُ رضي الله عنه : « لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظلُّ اليوم يلتوي ، ما عنده ما يملأ بطنه من الدَّقَل » . يعني رديء التمر .

-  وتقول عائشة رضي الله عنها : « ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية  حتى فارق الدنيا ، ولو شئنا لشبعنا ، ولكن كنا نُؤثر على أنفسنا » .

-  جاءت مرَّة فاطِمةُ رضي الله عنها بكِسرة خبز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  تطعمه إياها ، فسألها عنها فقالت : « قرص خبزته, فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة ، فقال : أما إنه أولُ طعام دخل بطن أبيك منذ ثلاثة أيام » .

-  لقد كان الجوع يصيب الصحابة – رضي الله عنهم - حتى إن أحدهم يقلق من الجوع ، فيخرج من بيته لعله يجد ما يملأ به بطنه .

-  يقول عتبةُ بنُ غزوان رضي الله عنه : « لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً من شهر رمضان ، مالنا طعام إلا ما نُصيب من أوراق الشجر، حتى قَرحت أشداقنا من أكل الشجر » .

-  كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأكل في اليوم إحدى عشرة لقمة ، فعاتبه الناس في ذلك ، فقال : « والله إني لأشتهي الطعام ، إني لآكل السمنَ وعندي اللحم ، وآكل الزيت وعندي السمن ، وآكل الملح وعندي الزيت، ولكن صاحبيَّ سلكا طريقاً ، فأخاف اختلافهما ، فيُخالفُ بي » ، يعني أنه يأخذ بالأدني من الطعام وهو قادر على الأعلى إيثاراً , ورغبة في الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه.

-  جاء رجل بشراب لعبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما يساعد على الهضم ، فقال عبد الله :« مالي وله ، ما شبعت منذ أسلمت » .

-  قال سفيان الثوري رحمه الله : « بـِتُ عند الحجاج بن الفرافصة أربعة عشر ليلة ، فما رأيته أكل ولا شرب ولا نام » .

-  كلَّف الربيع بن خثيم رحمه الله أهله بصناعة بعض الحلوى، فلما قُدِّمت له أتى برجل مجنون, وأخذ يطعمه الحلوى بيده ، فأنكر عليه أهلُهُ ، وقالوا عن المجنون : « هو لا يدري ما يأكل» ، فقال الربيع : « ولكن الله يدري ».

-  أيها الإخوة : لقد كان موسم التمر من الرطب والفاكهة تمر على بعض السلف فلا يأكل منها حبة واحدة .

-  وكان بعضهم لا يسأل أهله صناعة الطعام ولا أنواعه ، إن وجد شيئاً أكل يسد جوعه ، وإن لم يجد لا يسأل ولا يبحث.

- وربما مات أحدهم فإذا جاءوا إلى غسله ، فعصروا بطنه لا يخرج منه شيء، يعيش أحدهم طاوياً , ويموت طاوياً .

-  يقول الحسن البصري رحمه الله : « لقد كان  أحدهم يأكل الأكلة فيتمنى أن تبقى في بطنه كما تبقى الآجرَّة في الماء ، فتكون زَاده من الدنياَ ».

-  اللهم أشبع بطوننا بالحلال ، وحصِّن فروجنا عن الحرام، واستر عيوبنا عن الأنام , واختم بالصالحات آجالنا يا أرحم الراحمين.

* * *

-  أيها الإخوة : ليس الجوع فرضاً واجباً على المسلم إلا أن يكون صياماً واجباً ، وإنما هو مدرسة تربوية مستقلة ، لها منهجها وآدابها ، وهو دأب السلف وأهل الآخرة ، أخذ به الصالحون من هذه الأمة ، ومن قبلهم من أهل التوحيد .

-  وأما ضابط هذا المسلك التربوي ، هو ألا يجوع جوعاً يقعده عن القيام بالواجبات الشرعية والاجتماعية، وإنما هو جوع يملك عليه نفسه ، فيسوقُها في مراضي الله تعالى ، ليرقق به قلبه ، ويصلحَ به أخلاقه وسلوكه.

-  وضابطه أيضاً ألا يحزن على طعام فاته ، ولا يبالي بأي طعام أسكَن جوعه، مهما كان رديئاً ، مادام أنه حلال طيب .

-  أيها الإخوة : إن الشِّبع ليس بحرام ، وإن أشدَّ ما فيه الكراهة ، وإنما الممنوع أن يأكل فوق حاجته فيضرَّ نفسه ويُهلكها.

-  ثم إن دوام الجوع أن يأكل المسلم دون حدِّ الشِّبع ، فمن فعل ذلك فقد جاع ، ونهج التدرُّج التربوي هو الطريق لذلك .

-  قال مالك لأحد أصحابه : « احفظ عني اثنتين ، لا تبيتنَّ وأنت شبعان ، ودع الطعام وأنت تشتهيه ».