35- ظاهرة النفاق في تاريخ الأمة المسلمة وخطرها

 

-  أيها المسلمون : خلق الله تعالى الخلق وقدَّر أن يكون منهم المؤمن والكافر، كما قال عزوجل : " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ".

-  فأما المؤمنون فهم على ثلاث مراتب : السابق بالخيرات ، والمقتصد ، والظالم لنفسه ، فكلُّهم يشتركُ في الإيمان إلا أنهم يتفاوتون في المراتب .

-  وأما الكافرون فهم أيضاً على ثلاث مراتب : أولها : الكافر الأصلي ، ثانيها : المرتد المعلن لردته ، وثالثها : المنافق المستتر بكفره.

-  وهذه الفئة الأخيرة أخطر فئات الكافرين ، فهي تشترك مع الكفار في الكفر والعداء للإسلام والمسلمين ، وفي الوقت نفسه ينْعمون بين المسلمين بالأمن والأمان ، ويتخللون جميع فئات المجتمع المسلم ، ويدخلون في كلِّ طبقاته ، وفي كل شؤونه .

-  فقد تجد منهم الرئيس ، والوزير ، والضابط ، والمفكِّر ، والصحفي ، والتاجر ، والمسكين ، وقد تجد منهم العَالِم بالدين أو الدنيا .

-  فأيُّ خطر يمكن أن يصدر عن هذه الفئة الكافرة ، وهي تعيش متخفية بين المسلمين ، تتستَّر بثوب الإسلام .

-  إن الفرق كبير جداً بين عدوٍ تعرفُهُ ويعرفُك ، وتستعد له ويستعد لك ، وبين عدوٍ يعرفُك ولا تعرفه ، ويستعد لك ولا تستعد له .

- أيها المسلمون : النفاق الأكبر هو : إظهار الإيمان باللسان وكتمان الكفر بالقلب ، فهو دخول الإسلام من وجه ، والخروج منه من وجه آخر .

-  وهؤلاء المنافقون على ثلاثة أصناف : صنف دخل الإسلام متظاهراً بالإيمان ، وهو لا يزال على أصل كفره ، لم يؤمن طرفة عين ، وصنف أسلم عن صدق ثم بدا له فارتدَّ ، ولكنَّه لم يعلن ردَّته ، وبقي يتظاهر بالإسلام خوفاً على نفسه ، وصنف نشأ في الإسلام من أبوين مسلمين، ثم لما كبُر وعقل : جحده دون أن يعلن جحوده  .

-  فهؤلاء من الأصناف الثلاثة يشتركون في الكفر ، ويشتركون في التظاهر بالإسلام ، على اختلاف أصنافهم .

-   لقد عانى المسلمون من هذه الأصناف المنافقة معاناة عظيمة ، فمنذ أن انتصر المسلمون في معركة بدر وحتى الآن وهذه الفئات الخبيثة لا تزال تعمل عملها في الإضرار بالأمة والتربص بها ، وإفساد حالها .

-  لقد بدأ النفاق زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أُبي بن سلول ، ومعه نحوٌ من سبعين رجلاً ، أخفوا الكفر وأظهروا الإيمان .

-  فقد كان لهم أدوار خطيرة في إيقاع البلبلة بين المسلمين وإفساد ما بينهم من الأخوة والمحبة ، والسعي في كشف عوراتهم للكفار ، وإيقاع الوهن فيهم والكلام في أعراضهم.

-  ثم استمر النفاق بعد عصر النبوة، بدخول فئات كافرة في حكم الإسلام، مثل عبدالله بن سبأ اليهودي، الذي كان وراء فُرقة المسلمين، وسبباً في حروبهم الأولى فيما بينهم.

-  ثم ظهر المنافق الزنديق ميمون القداح اليهودي ، فعبث في عقائد المسلمين، وألَّف فرقاً ضالة ، لا تزال تمارس ضلالها حتى اليوم .

-  وظهر المنافق الشيعي ابن العلقمي، الذي كان سبباً في سقوط دولة الخلافة العباسية على يد التتار في منتصف القرن السابع الهجري.

-  وظهر بعد ذلك جمع من اليهود الأسبان ، ممن يُسمَّون بيهود الدونمة ، تظاهروا بالإسلام وعلى أيديهم سقطت الخلافة العثمانية .

-  إضافة إلى تعاون المنافقين في العصر الحديث مع المستعمر الأوربي في استعمار البلاد الإسلامية ، وضياع أمجادها.

-  أيها المسلمون : إن مسلك النفاق ليس خاصاً بالمسلمين ؛ فإن أول من مارسه هو إبليس حين اندس بين الملائكة عابداً مخبتاً حتى انكشف أمره .

-  ومارسه اليهود أيضاً حين أرادوا العبث بدين النصارى ، فحصل لهم ما أرادوا، وهكذا فإن تاريخ هذا المسلك طويل وخطير .

-  إن الناظر في صفات المنافقين كما صــوَّرها القــرآن الكريم يجدهم أناساً لا يحبون حكم الله ولا يرضون به ، كُسالى عند القيام بالواجبات الشرعية ، لهم قلوب قاسية ، وشغف شديد بالدنيا وملذاتها ، ويجمعون بين العديد من الصفات القبيحة مثل : البخل والكذب والجبن والتملُّق والخداع .

-  ومن أعجب مسالكهم أنهم - رغم فسادهم وضلالهم – يزعمون فيما يقومون به من الأعمال: الإصلاح والصلاح : " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ " .

-  ولهذا تراهم يقفون ضد الشريعة الإسلامية؛ بحجة أنها لا تناسب العصر ، وتراهم يسعون بالفساد عبر وسائل الإعلام والنوادي الفاسدة والشواطئ الخليعة والملاهي الساقطة: بحجة الترفيه البريء  .

-  وربما دفعوا بالمرأة لتنزع حجابها, ودفعوها للاختلاط بالرجال: بحجة المساواة وتحريرها وإعطائها حقَّها .

- بل ربما تلبَّس بعضهم بالدين والمشيخة , فيصدر الفتاوى الباطلة المعارضة لما أجمع عليه المسلمون ، فيعمل على هدم الدين من داخله .

-  إن المسلم الحق ليعرف هذه الفئة الخسيسة بفلتات ألسنتهم ، ومزالق أقلامهم ، واضطراب سلوكهم، وصدق الله إذ يقول: " وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ".

* * *

- أيها المسلمون : لقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين فقال : « إن أخوف ما أخاف على أمتي كلُّ منافقٍ عليم اللسان » , يعني أنه يعرف من حجج الدين ما يروِّج لباطله.

-  وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :« ما أخاف عليكم أحد رجلين: رجل مؤمن قد تبين إيمانه، ورجل كافر قد تبين كفره، ولكن أخاف عليكم منافقاً يتعوذ بالإيمان ويعمل بغيره» , يعني يستتر بدعوى الإيمان , ويعمل  في الباطن بالكفر.

-  إن واجب المسلمين الصادقين تجاه المنافقين هو الإعراض عنهم تارة ، والغلظة عليهم تارة ، وكشف سترهم تارة أخرى .

- وأما إقامة حدِّ الردَّة عليهم فغالباً ما يتعسَّر ذلك لاستتارهم؛ ولهذا كان نهج الرسول صلى الله عليه وسلم هو : أخذهم بظاهر سلوكهم, وترك سرائرهم لله تعالى ينتقم منهم يوم يلقونه.

-  وأهم من إقامة الحد عليهم هو أن يتقي المسلم ربه فلا يسلك مسلكهم؛ فإن النفاق الأصغر كالتقاعس عن أداء الصلاة في موعدها, والكذب, والفجور في الخصومة ، وخُلف الموعد ، وتضييع الأمانة ، والرياء ، كل هذه المسالك القبيحة ونحوها بريد النفاق الأكبر ، وقد توعَّد الله المنافقين بما لم يتوعَّد به غيرهم : "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ".

-  اللهم اكفنا شر النفاق والمنافقين , واجعلنا من عبادك المخلصين الصادقين يا رب العالمين .