الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الإيمانية @ 26- المشغولون عن الآخرة


معلومات
تاريخ الإضافة: 9/8/1429
عدد القراء: 985
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

 

-  أيها المسلمون : تُخيِّم المادية المقيتةُ بظلالها السوداء القاتمة عَلَى حياة الإنسان المعاصر ، وتُسبغ على حياته قسوة وغلظة وجفافاً.

-  وتحاصره مشاغل الدنيا وحاجاتها الكثيرة ، فلا يكاد يخرج من شأن إلا وقع فيما هو أشد ، يسير في دائرة مفرغة لانهاية لها .

-  لقد أغرقته الحياة المادية بمشاغل لا حصر لها ، وأعمال لا تنتهي ، حتى إنه من فرط انشغاله لا يلتفت إلى نفسه.

-  لقد شغلته وظيفته عن نفسه ، يعمل في الصباح والمساء ، بكلِّ جد ونشاط، يبتغي بذلك رضا رؤسائه .

-  ولقد شغلته زوجته بطلباتها التي لا تنقطع ، وألهته بدلالها الذي لا ينتهي ، استهلكته في خدمتها ورضاها .

-  وأما الأولاد فقد شغلوه بحاجاتهم الكثيرة ، فهذا يحتاج إلى من يراجع معه دروسه، وهذا لابد أن يذهب به إلى الطبيب ، وهذا يطالب بالنزهة ، وهكذا .

-  وأما والداه ، فكلاهما في حاجة إلى رعايته ، وشيء من وقته يبذله في خدمتهما ، ورعاية شؤونهما .

-  وأما الأقارب ، فهذا مريض لابد من زيارته ، وهذا زواج لابد من حضوره ، وهذا عزاء لابد من مواساة أهله .

-  وأما السيارة والشقة ، فكلاهما يحتاج إلى صيانة ، إضافة إلى المعاملات الحكومية التي تحتاج إلى مراجعة ومتابعة.

-  فما أن تحلَّ نهاية الشهر ، وينزل الراتب في الحساب ، حتى يبدأ الديَّانة بالخصم منه ، أقساط وفواتير لا تنتهي .

-  فإذا هو في هذه الدوامة إلى الستين من عمره ، قد زوج الأولاد والبنات ، وتقاعد من عمله ، يزعم أنه يتفرغ لنفسه .

-  فإذا بأمراض العصر تحيط به : الضغط والسكري ، والجلطات والهزال ، فإذا به يخوض دوامة جديدة من المشاغل المرضية والعلاجية.

-  ينتقل من مصحَّة إلى أخرى ، ومن طبيب إلى طبيب ، قد استهلك ما بقي من ثروته على صحته وعلاجه .

-  حتى إذا أعياه المرض ، وأصبح طريح الفراش ، أسير المقعد المتحرك ، وقد خارت قواه عن القيام بالأعمال ، لم يعد قادراً على شيء : حينها تعمل الذاكرة عملها في نفسه.

-  فأخذ يتذكر ماذا فعلت به الحياة المادية بمشاغلها ؟ كم من صلاة ضيعها ؟ وكم من جمعة فوتها ؟

-  لم يختم المصحف في حياته إلا مرة أو مرتين ، لقد نسي نفسه فلم يحج ولم يعتمر ، حتى الزكاة لا يدري كم بقيَ عليه منها ، لم يخرجه للمستحقين.

-  وأما رمضان فقد مرت عليه في شبابه أشهرٌ لم يصمها ، وأفطر أياماً بسبب العمل لم يقضها ، وأما النذور فكثيرة لا يذكرها .

-  كم مرة حلف على زوجته بالطلاق ، وكم مرة ألقاه عليها ، ومع ذلك فهي لاتزال معه ، لم يسأل ، ولم يستفت .

-  له رحم قد قطعها بسبب حطام الدنيا ، وله جار قد هجره منذ سنوات طويلة ، لا يُلقي عليه حتى السلام .

-  لقد ألهته الدنيا بمشاغلها ، وغرَّه الشباب بقوته ، فلم يستعدَّ لما أمامه من كرب الآخرة .

-  كيف يستدرك ما فاته ؟ لقد خارت قواه عن القيام بالأعمال الصالحة ، حتى الصلاة لا يستطيع أن يقوم لها .

-  له أولاد لا يطاوعونه ، إذا أراد الصدقة ثبَّطوه ، وإذا أراد أن يَقف شيئاً من أملاكه منعوه، لم يعد الأمر بيده .

-  لقد فاته زمن الاختيار ، أما الآن فهو في زمن الإجبار ، لا يشعر بمشاعره أحد ، ولا يحسُّ  بإحساسه أحد .

-  لقد أصبح كالغريب بين أهله وأولاده وأحفاده ، كالتائه في وسطهم ، إذا تكلَّموا لا يسمعهم لثقل سمعه ، وإذا تكلَّم لا يفهمونه لثقل لسانه.

-  ينتظر مودَّتهم ورحمتهم به ، وهم ينتظرون ساعته التي يتخلَّصون فيها منه ، يتمنى ساعة من ساعات الشباب يعمل فيها لله تعالى .

-  كيف يقدم على الآخرة بصحائف بلا أعمال ، وذنوب بلا استغفار ، وحقوق بلا أداء .

-  حتى إذا حانت ساعة الفراق ، فأدبرت الدنيا بملذاتها ، وأقبلت الآخرة بكرباتها : جاء الموت ، وخُتمت الصحائف، وقُضي الأمر .

-  وصدق الشاعر إذ يقول : 

لعمرك ما يُغنى الثراءُ ولا الغنى     إذا حَشْرجت يوماً وضاق بها الصدرُ

-  وأصدق من هذا قول الله تعالى : " وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ " .

-  أيها الإخوة : هذا مصير كلِّ واحد منا ، إلا من تخطَّفته المنايا قبل ذلك ، فلم يُمهل ليستدرك ما فاته ؟

-  ليس من كبير ولا صغير ، ولا عظيم ولا حقير ، ولا ذكر ولا أنثى إلا وينتظر ساعة مصرعه ، إن آجلاً أو عاجلاً .

-  إلا أن العاقل يستفيد من فترة شبابه وقوته بعمل الصالحات ، والإكثار من الطاعات ، وتجنُّب المحرمات .

-  وهذا لا يتحقق حين يستسلم المسلم للحياة المادية ، وللشواغل التي لاتنتهي ، فالإنسان كلَّما كبر زادت مشاغله .

-  فالعاقل يقتطع وقتاً مِنْ ساعته ، ومن يومه ، ومن شهره ، ومن سنته ، يقتطع وقتاً يجعله لله تعالى خالصاً ، قربة لله تعالى ، يتقرَّب بها إليه في عمل صالح .

-  يصلي أو يصوم ، يذكر الله تعالى ، يقرأ القرآن ، يتصدق على المساكين ، يصل الأرحام ، يصلح بين اثنين ، ينصر مظلوماً .

-  يعزم على ترك المعاصي ، فلا يعصي الله بلسانه ، ولا بنظره ، ولا بسمعه ، ولا يمنع حقوق الناس، فإذا قصَّر وأخطأ : عاد إلى ربه فتاب وأناب .

-  إن أبواب الخير كثيرةٌ مشرعة ، وفضل الله واسع ، و ما من شيء يمنع الإنسان من الخير إلا شيطانه ، ونفسه الأمَّارة بالسوء .

-  اللهم وفقنا لطاعتك ، واستخدمنا في رضاك يا أرحم الراحمين .