1ـ أهمية القدوة في تربية الأطفال

الخطبة الأولى:

الحمد لله يتفضلُ على عباده بالخير, ويُسْبغُ عليهم النعم, يَهَبُ لمن يشاءُ إناثاً, ويهبُ لمن يشاء الذكور, أو يزوِّجُهُم ذُكْراناً وإناثاً, ويجعلُ من يشاء عقيماً, إنه عليمٌ قدير. أحمدُهُ وأستعينه وأستغفره, وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل, فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أرسله بالهدى, ودين الحق, ليظهِرَهُ على الدين كلِّه ولو كَرِهَ المشركون.   أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله, وارجو اللهَ واليومَ الآخر, ولا تعثوا في الأرض مفسدين.

) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (.

أيها الإخوة الكرام :  لقد امتنَّ اللهُ على عباده بنعمة الذرية, فرزَقَهُم من أصلابهم بنينَ وحفدة, يأتمرونَ بأمرهم, ويسْعونَ في مرضاتِهم, ويَشُدُّون بهم ظهورَهُم, ويحمِلون ذكْرَهم من بعدهم. وهذه من أعظمِ النعمِ والفضائلِ, التي تفضَّلَ بها الله عز وجل على عباده، وفي ذلك يقول تبارك وتعالى مبيناً هذه النعمة: ) وَاللَّـهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّـهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (.

ومن أعظمِ الدلائلِ على عظمةِ نعمةِ الذرية: حال من حُرِمَهَا, فجعله الله عقيماً لا يُولد له, فتراهُ يهرعُ إلى هنا وإلى هناك, يطلبُ علاجاً, أو رقيةً لعله يُرزقُ ولداً يحملُ عنه بعض أعباء الحياة, ويمدُّ في ذكره بعد الممات.

أيها الإخوة الكرام: إن النعمةَ لا يعرفها على حقيقتها, ولا يُقدِّرها قدرها إلا من حُرمَها, وقاسى آلامَهَا, وأحزانَها.

ومع أنَّ نعمةَ الذريةِ نعمةٌ عظيمةٌ, إلا أنها فتنةٌ كبيرةٌ, واختبار عسير, ومسؤوليةٌ شاقةٌ, وإلى هذا أشار الله عز وجل في كتابه فقال: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ  وَاللَّـهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (، كم من أبٍ عقَّهُ أولادُهُ فعصَوْه, وأذاقوه مرارة الحرمان, وعلقم الصبر, حتى يئسَ من الحياة, وتمنى أنه لم يتزوج, ولم يُولد له, وتمنى لو أنَّه وضعَ جهدَ الرعاية والعناية في جروٍ, خيرٌ له من ولدٍ لصلبه.

وكم من أبٍ ساقته عواطفُ الأولادِ والزوجة, بعيداً عن مسلكِ الأبرار, فألحُّوا عليه بالانحراف, وزيَّنوا له الإنفاق فيما حرم الله, وجلْبَ المالِ من حلالٍ وحرام, وقعدوا به عن القيام بواجب الدعوة إلى الله, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فأصبح الأبُ يتأثرُ ولا يُؤثِّر, ويُقَادُ ولا يقود, ويأمرُ فيُعصـــى, في حين كان واجبُهُ أن يكون في بيته قائداً لا مَقُوداً, وسيِّداً لا مَسُوداً؛  قال الله تعالى: ) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء(, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الرجل راعٍ على أهل بيته, وهو مسئولٌ عنهم«، فكيف يكونُ دورُ الأبِ في بيته تنفيذَ الأوامر, وإشباعَ الشهواتِ, وتحقيق المطالبِ ؟ فكثيراً ما يعتذرُ الآباءُ عندما يُنْكَرُ عليهم تصرفٌ معينٌ, كأن يُنْكَرَ عليهم شراءُ شيءٍ حرمه الله, أو أخذ أولادهم وأهلهم إلى مكان محرم, فيقول الأب معتذراً: »ماذا أفعلُ الأولادُ يُريدون, وأمُ الأولاد تريد»، وكأنه لا سلطـــان له, ولا كيانَ, ولا إرادة.

إن المسؤوليةَ الكبرى التي حمَّلها الله الآباء: أن يُنقِذُوا أنفسَهم وأهليهم من النار, قال الله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهــــَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شـــِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّـهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (، إنه لا مجال للأبِ أن يتفلَّتَ من هذه المسؤولية, أو أن يتغافل عنها, فإن الخسارةَ يوم القيامةِ عظيمةٌ, والخطبُ في ذلك اليوم جلل, وقد وصف الله حال المفرِّطين في مسؤولياتهم تجاه أنفسهم وأهليهم فقال عز وجل: ) قُلْ إِنَّ الْـخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْـخُسْرَانُ الْـمُبِينُ(. إنه لتحذيرٌ شديد, ووعيدٌ عظيم, بأن يخسرَ الإنسان نفسَه وأهلَه وولده يوم القيامة, بأن يكونوا جميعاً من الهالكين في نار جهنم, المعذَّبين فيها, في حين أن الصالحين, الذين قاموا بحق الله في هذه الدنيا: رفع الله درجَتَهم في الجنة, وألْـحَـقَ بهم ذريَّتَهم, وجمعهم في منزلة عظيمة, ودرجة عالية, ونعيمٍ مقيم؛ ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْـحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَـحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُـــــونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَـهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّـهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (.

وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثيرَ الأولاد على آبائهم, فقد رُوي عنه أنه قال: « الولدُ محْزنةٌ مجْبنةٌ مجْهلةٌ مبخلة», أي أنهم يُحزنونَ آباءَهم بما يُصيبُهم من الأمراض والأسقام, أو الموت, كما أنهم يُثبِّطونهم عن الجهاد, والخروج في سبيل الله، والإنفاق في وجوهِ البر, كما أنهم يُقْعِدونَهم عن طلب العلم لانشغالهم بهم. فاحذروا أيها الإخوة الكرام من الانصياع لرغبات وأهواء الأولاد, والزوجات, والخضوع لمطالبهم إذا جاءت مصادمةً لأوامر الشرع الحنيف, مخالفةً لهذا الدين.

وإن المتأمِّلَ في أسباب انحراف كثير من الشباب, وضياعهم, ووقوعهم في مهاوي الرذائِل والفواحش, وتعاطي المخدرات, والخمور. يجدُ أنَّ أعظم هذه الأسباب, وأخطرها: فقدانُ القدوةِ الصالحةِ في الآباءِ والمربين.

إنَّ التربيةَ بالقدوة تُعدُ من أهم وسائل التربية, بل هي أهمُّ وسائلها على الإطلاق, وذلك لوجود تلك الغريزة الملحة في كيان الإنسان, تدفعُهُ نحو التقليد والمحاكاة. والأولاد الصغار أشدُّ تأثُّراً بالقدوة من الكبار. فهم يجدون في آبائهم المثلَ الأعلى, والنبراس الذي يهتدون به. فالأطــفال الصــغار يعتقدون أن كـلَّ ما يفعلُهُ الكبار, ويمارسونه صحيحاً, فهم لا يدركون - في أول الأمر الصواب من الخطأ, ولا يميِّزون بين الخير والشر, إنما هم ينظرون بأعين آبائهم, ويُحاكون طريقتهم في الحياة. لهذا تجدُ في الغالب أن الأولاد الذين لا يصلُّون: نشأوا في بيوتٍ لا تُقامُ فيها الصلاة, وكذلك الأولاد الذين يدخِّنون, لابد أنهم يقتدون بالمدخِّنين في البيوت, وهكذا تجدُ أن النشءَ ثمارَ تلك البيــــوت. ) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (.

أيها الآباء الكرام: إنَّ الخطرَ على النشء من فقدان القدوة في البيت لا يكمنُ في كونِهم ينشأون متلبِّسين ببعض الانحرافات الأخلاقية, إنما الخطرُ يحصل إذا كبِرَ هؤلاء الصغار, وعَقَلوا حقائقَ الأمور, وعلموا واقعَ المربين, وأن ما كانوا يسمعونه من عبارات الفضيلة, والنصائح, والأمر بحسنِ الخلــــق والبر, إنما هي عباراتٌ جوفاء, لا واقـــع لها, ولا تطبيق, فإن هذا الصنفَ من الأطفال في العادة ينحرفُ انحرافاً شديداً, ويرفضُ المجتمعَ, وتقاليدَهُ, وعاداتِهِ, وما فيه من خير وشر, ويحاولُ أن يبحثَ في مجتمعات أخرى عن قدوات, ورموزٍ يقتدي بها في حياته الجديدة. وقد ثبت أن الأطفال الذين ينشأونَ في أسرٍ متناقضةِ القيمِ والأخلاق, وتظهر فيها علاماتُ النفاق, ومخالفةُ الأقوال للأعمالِ, فإن هذا الصِّنف من الأطفال يُصبحون إذا كَبِروا من أكثرِ الناسِ بعداً عن الالتزام بالآداب والأخلاق الإسلامية, وذلك لعمقِ الأثر الذي أوجدهُ ذلك التناقضُ السلوكي في نفوسهم.

أيها المؤمنون: إن الناظرَ في أوضاعِ المجتمعات الإسلامية اليوم, يجد أن عقيدتنا, وأخلاقَنا, وقيمَنا تكادُ تكونُ في ناحية, وحياتَنا العمليةَ الواقعيةَ في ناحية أخرى, نقيضان لا يلتقيان, فكيف ينشأُ مع هذا الوضع أطفالٌ صالحونَ يرونَ, ويشاهدون المتناقضاتِ في حياة الأمة. إنهم مهما سمعوا من المربين, من عبارات الخير والفضيلة, والأخلاقِ الحميدة, فإنهم لن يحملوا في داخل أنفُسِهم سوى الصورةِ التي يرونَها أمامَهُم, من أنواعِ وأنماطِ السلوكِ, إن خيراً فخير, وإن شراً فشر.

وقد أدركَ السلفُ رضوان الله عليهم هذه المعانيَ الخطيرة, فهذا عمرو بن عُتْبة, ينصح معلِّمَ ولدهِ فيقولُ له: « ليكن أولُ إصلاحِكَ لولدي إصلاحَكَ لنفسِكَ, فإن عُيونَهم معقودةٌ بعينك, فالحسنُ عندهم ما صنعت, و القبيحُ عندهم ما تركت ».

كثيراً ما يعتذر الآباءُ بالفسادِ الاجتماعي, ويُحمِّلونَ المجتمع فسادَ أولادهم.  متخلين بذلك عن دورهم وواجِبِهِمُ التربوي, فهم قد جلبوا الطعامَ والشرابَ واللباسَ, وظنُّوا أنَّ مُهمَّتَهم تنتهي عند هذا الحد.

نعم أيها الأب, إن للمجتمعِ ومؤسساتِهِ المختلفَةِ دوراً في التوجيه والتأثير ولا شكَّ في هذا, ولكن ليعلم الآباءُ, ويُوقِنوا, أن أثرَ البيت الصالح, أبلغُ وأقوى من كلِّ أثر, فإن ما ينقُشُه الآباء في نفوسِ أولادِهم من معاني الخير والفضيلة, بالعبارات الصادقة الحارة, والسلوك القويم, مع القدوة الصالحة, له أثرُهُ القوي الذي يبقى مع الولد حتى وإن ظَهَرَ على الولد بعضُ انحرافٍ في أول الأمر بسبب ضغط المجتمع المنحرف, فإنَّه غالباً ما يرجعُ إلى الخير, وتكون عاقبتُهُ إلى الصلاح, فما كان الله ليُضيعَ جهدَ الأبِ الصادق, الذي جاهد في سبيل إصلاح ولده واستقامته.

ولو افترضنا ضياعَ الولدِ وانحرافَهُ, مع ما بذله الأبُ في سبيل إصلاحه, فإنه لا لومَ على الأب, وقد أخذ بالأسباب, فإنَّ لله في ذلك حكمةً هو أعلمُ بها, وللأبِ الأجرُ والمثوبةُ على صلاح نيته, وبذل جهده.

أيها المسلمون: إنَّ فقدانَ النشءِ للقدوة الصالحة في المجتمع يُعدُّ من أعظمِ المصائب التي يَجْنيها الجيلُ الجديد, وإنَّ تناقض الأقوال مع الأعمال, في واقع الحياة, وبُعْدَ المربين عن سلوك النهج الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمربي المسلم كل هذا يضعُ الأطفالَ في حالة من الحيْرة والتردد, فهم لا يستطيعون أن يوفِّقوا بين هذه المتناقضاتِ, فيسمعونَ من آبائهم كلاماً حسناً عن وجوب التقيُّدِ بالآداب والأخلاق الإسلامية, والبعد عن الخيانةِ, والأمر بالأمانةِ, ثم يشاهدُ هؤلاءِ الأطفال آباءَهـــم وهــــم يمارســـون في حياتِهِمُ العمليةِ عكسَ ما يقولونَ, وما يأمرونَ به أولادَهم.

ولْيَعلم الآباءُ أنَّ الطفل في سنِّ التمييز يمكن أن يحدِّدَ مدى التزام أهله بالتوجيهات التي يأمرونه بها, وإلى أيِّ حدٍ يتقيَّد أهلُهُ بالآداب والأخلاق التي ينادون بها, فلا يظن الأب أن الطفل لا يعقل ما يدور حولَهُ, فإنه يتأثر بالقدوةِ العمليةِ أكثرَ بكثير مما نظن.

إن كلامنا مهما كان جميلاً ومتناسقاً, فإنه لن يؤثِّر في أولادنا, مهما كررناه عليهم, حتى يمتزجَ بأرواحنا, ويكونَ مطبقاً حياً في واقعنا العملي, وهنا فقط يؤمن به الأولادُ, ويقتدون بنا.

أيها الإخوة الكرام: كيفَ يسوغُ للأب المسلم أن يأمر أولاده بالعفافِ والأدبِ, وبناتَهُ بالحشمة والحياء, ثم يزجُّ بهم في مجتمعات تفشَّت فيها الرذيلةُ والفواحش, بحجَّة قضاءِ إجازة الصيف, ثم يسمح للجميع بأن يفعلوا ما شاؤوا, فالأولاد ينطلقونَ هنا وهناك بلا رقيب, والبناتُ ينزعن الحجاب وجلباب الحياء.

وكيف يسوغُ للمسلم أن يأمرَ أولاده بالتقوى, ومراقبَةِ الله عز وجل في السِّر والعلن، في حين يخادعُ, ويغشُ, ويؤذي المسلمين بلسانه ويده.

وكيف يسوغ للمسلمِ أن يأمرَ أولادَهُ بالتقوى وغضِّ البصر عن المحرمات, والبعْدِ عن المنكرات, في حين يُطلقُ بصره وسمعه للملاهي والمنكرات بحجة الترفيه البريء.

وكيف يسوغ له أن يأمر أولاده بالمحافظةِ على الصلاةِ, وإتقانها في حين يهجرُ المساجدَ, ولا يؤدي الصلاة في أوقاتها المعلومة.

إن هذه التناقضاتِ التي تعيشها الأمةُ لا يمكن أن تُوجِدَ نشأً متوافق النمو, سويَّ الخلق, بل تُخرِّجُ أفراداً مشوَّهي النفوس, منحرفي السلوك. بل ربما خرج جيلٌ من أبناء المسلمين رافضٌ كلَّ مبادئ المجتمع خيرِها وشرِها, معْرِضٌ عن منهجه وسبيله. فكم عانت الأمة, من بعض أبنائها العاقِّين, الذين كانوا ثمارَ هذه التناقضات الأخلاقية, فمنهم من ألْحد وكفر, ومنهم من فسق وفجر, ومنهم من سلك سبيل المنافقين, فأخذوا جميعاً بيدٍ واحدةٍ, يضربون بمعولِ الهدم كيانَ الأمة, ويسوقونها نحو الهاوية.

ولقد حذَّر الله عز وجل عباده من سلوك هذا النهج المنحرف فقال عز وجل: ) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(, وقال أيضـــاً: ) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَـآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّـهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ (، وقال سبحانه وتعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (،  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يُؤتى بالرجل يوم القيامة, فيُلقى في النار, فتندلقُ أقتابُ بطنه, فيدورُ بها كما يدورُ الحمار بالرحى, فيجتمع إليه أهل النار, فيقولون يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقولُ بلى, قد كنت آمرُ بالمعروفِ ولا آتيه, وأنهى عن المنكر وآتيه » ، ويقول أيضاً: « آية المنافق ثلاث: إذا وَعَدَ أخلف, وإذا حدَّث كذب, وإذا اؤتمن خان » ، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: « إن الكذب لا يصلحُ منه جدٌ ولا هزل, ولا أن يعدَ الرجلُ ابنه ثم لا يُنْجز له«، وقال: »من قال لصبي تعال هاك ثم لم يُعطه فهي كذبة ».

أيها الآباء الكرام: إنَّ الثمرةَ الصالحةَ الطيبةَ, لا يمكن أن تخرج من أرضٍ خبيثةٍ جدباءَ, كما أنَّ الثمرة الخبيثةَ الفاسدة, لا يمكن أن تكون نَتَاجَ الأرضِ الطيبة, والعنايــة الكاملـــةِ, ) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (.

أقول هذا القول, وأستغفر الله لي ولكم, فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله ربِّ العالمين على جزيل نعمهِ وواسعِ فضْله, أحمده وأشكره, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, خيرُ قدوةٍ للسالكين, صلى الله عليه, وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد:

فإنَّ من نافلة القول, أن نقول: إنَّ الأخلاقَ الإسلاميةَ, المستمدةَ من القرآن الكريم, والسنة المطهرة, أخلاقٌ ثابتةٌ, لا تتغيرُ, ولا تتبدل, ولا تتطور مع مرور الزمن, فلا يمكن بحال, أن يصبح الكذبُ والخيانةُ في يوم من الأيام من  الفضائل, كما لا يمكن أن يُصبحَ الصدق والأمانةُ من البلاهةِ والغباء. وهذا الثَّباتُ في الأخلاقِ الإسلاميةِ يُعدُّ من أعظم خصائصها ومميزاتها التي تفردت بها عن الأخلاق الوضعية, التي تعارفَ عليها الناسُ بعيداً عن وحي الله المبارك. ومن هنا, فإنه لا يحقُ للأبِ المسلمِ أن ينهج في تربية ولده نهجاً غير الذي شرعه الله عز وجل, ولا يحق له أن يُعرض عن منهج التربية الإسلامية، بحجةِ تغيُّر الزمان, واختلافِ الناسِ, فإن الأخلاق والآداب الإسلامية لا تتغير ولا تتبدل.

أيها الإخوة الكرام: إن من أعظم أسباب صلاحِ الذريةِ, وفلاحِها: الدعاء الصادق. ولنا في أنبياء الله الكرام الأسوةُ الصالحةُ, فقد سجَّل لهم القرآن الكريم ابتهالاتٍ عظيمةً, ودعوات مباركةً جليلةً. فهذا نبي الله إبراهيم عليه السلام يدعو ربه عز وجل فيقول: ) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (, ويقول: ) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي(, ويدعو مع ابنه إسماعيل فيقولان: ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ (, وزكريا عليه السلام يدعو فيقول: ) رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء(.  ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو دعوة أبينا إبراهيم عليه السلام حيث دعا ربه فقال: ) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (, فاستجاب الله عز وجل هذا الدعاء، وبعثَ محمداً صلى الله عليه وسلم لهذه الأمةِ بشيراً ونذيراً.

أيها الآباء الكرام: إن للدعاء دوراً عظيماً في صلاحِ الأولادِ, وهدايتهم, فما هذه الابتهالاتُ والدعوات التي سجَّلها القرآن الكريم لأنبياء الله الكرام إلا إشارةً واضحةً على أهمية الدعاء. ومن المعروف أن دعوة الأب لولده مستجابة, فليستغلَّ الأبُ هذه المكانة, وهذا الفضلَ من الله, ولْيدْعُ لولده بالخير والصلاح, وليكن قدوةً صالحةً له, ولْيحذرْ كل الحذر من الدعاء على الأولاد أو القسوة عليهم, أو لعْنِهم, فإنَّ هذا خطأٌ عظيم, رُوي أنَّ رجلاً جاءَ إلى الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله يشكو إليه عقوق ولدِهِ, فقال له عبد الله: «هل دعوتَ على ولدِكَ ؟ فقال الرجل: نعم, فقال عبد الله: أنت أفسدته».

أيها الأخوة الكرام: إن من أعظم الآمال التي يرجوها الآباءُ من صلاحِ أولادهم ذلك الأملَ البعيد, هناك بعد الممات, حيثُ وحدةُ القبور, وظلمتُها, وضيقُها, حين ذهب عنه القريبُ والحبيبُ, ونساهُ الصديق والرفيق, واقتسم أهلُهُ الميراث, وتزوَّجت امرأتُهُ بعلاً غيره, ولم يبقَ إلا ذلك الولــــــــدُ الصــــــــالح الذي لا يزالُ يذكُـــرُهُ في دعائه: ) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ(, ويتصدَّقُ عنه من وقت لآخر. هذا الولد الذي أجهدَ الأبُ نفسهُ في تربيته, وتعليمه الخير, وحافظَ عليه من الفساد والضياع.

أيها الإخوة: لو لم يعمل الأبُ, ويجتهدْ في تربية ولده إلا على هذا الأمل الطيب: لكان في هذا نعمةٌ عظيمةٌ وأجرٌ كبيرٌ, يقول عليه الصلاة والسلام: »إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عنه عملُهُ إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جارية, أو علمٍ يُنتفع به, أو ولدٍ صالح يدعو له«.

ولا يقفُ خيرُ الولد الصالح عند هذا الحد, بل هناكَ يومَ يقومُ الأشهاد, يوم يُحشرُ الناسُ حفاةً عراةً غرْلاً, كلٌ يقول: نفسي نفسي, فإذا بهذا الأبِ الصالح يُكسى حُلَّتين لا تقومُ لهما الدنيا, فيقولُ: بمَ كُسيتُ هذا ؟ فيُقال: بأخذِ ولدِكَ القرآن. إنها والله لنعمة عظيمةٌ, ومنَّةٌ من الله كبيرة, نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لذلك, ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ (, ) وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْـمُتَنَافِسُونَ (.

ألا وصلوا على البشير النذيـر الذي علَّمَكُم الخير, ودلَّكم عليه: ) إِنَّ اللَّـهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(, اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيِّدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, وارض اللهم عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمِّر أعداءَ الدين من اليهود والنصارى وسائر الكفرة المعاندين.

اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين, اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل اللهم ولايتنا في من اتقاك واتبع هداك طالباً رضاك يا ربَّ العالمين.

ربنا هبْ لنا من أزواجنا وذرِّياتنا قرةَ أعيُن واجعلنا للمتقين إماماً. اللهم أحسن عاقبَتَنَا في الأمور كلِّها وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم اجعلنا من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساءوا استغفروا. اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك. اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواءِ والأدواءِ. اللهم أصلح ذات بيننا، وألِّف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور.

اللهم بارك لنا في أسماعنا وأبصارِنا وقلوبِنا وأزواجِنا وذرِّياتِنا, وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

عباد الله إن الله يأمر بالعدلِ والإحسانِ وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.

فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه الكثيرة يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.