2ـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه

أمَّتِهِ.

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبدِهِ الكتابَ, وأيَّدَهُ بخيارِ الأصحابِ, ونَصَرَهُ بفضلهِ على جموعِ الأحزابِ, حتى ظهرَ الدينُ, وتبيَّنَ الطريقُ, فأعزَّ الله المؤمنينَ, وأذلَّ المشركينَ.  وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لَهُ في ألوهيتِهِ, ولا ندَّ له في ربوبيتِهِ, ولا شبيهَ له في أسمائِهِ وصفاتِهِ. أنزلَ الكتبَ لهدايةِ خَلْقِهِ, وأرسلَ الرسلَ لقيادةِ حزبِهِ, فاختارَ لرحمتِهِ السُّعداءَ, وأَضَلَّ عن فضلِهِ الأشقياءَ. هدى أولياءَهُ للاعتصام بكُتُبِهِ, ووفَقَّهُم للاقتداء برسله. فحملوا راياتِ الهُدَى, وتجنَّبوا سبيلَ الرَّدَى, فرضِيَ اللهُ عنهم ورضوا عنه.

وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله: سيِّدُ الأنبياء, وأتقى الأتقياء, وأعظمُ العظماء. وأشهدُ أنَّ أصحابَهُ أفضلُ الأولياء, وأزكى الأصفياء, وأنبلُ النجباء, بعد الرسلِ والأنبياءِ. خصَّهُمُ اللهُ بالصحبةِ, وأكرَمَهُم بالمحبَّةِ, فاختارهم لحملِ رسالتِهِ, ونشرِ هدايتِهِ, ففتحَ بهمُ البلادَ, وهدى على أيديهمُ العبادَ. أهلُ الفضلِ والهدى, والكرمِ والتقى. قُلوبُهُم زكيَّةٌ, وأرواحُهُم نديةٌ, وأعمالُهُم عليةٌ. اللهُ بكتابه ربَّاهم, والنبي صلى الله عليه وسلم بسنَّتِهِ زكَّاهُم. حفِظَهُمُ اللهُ من الردَّةِ بالصدِّيق, وعَصَمَهُم من الفتنةِ بالفاروقِ .  فكانت النعمةُ من الله على الأمَّةِ بهذينِ الشيخين: أبي بكر وعمرَ رضيَ اللهُ عنهما, خصَّهُما اللهُ دون الأمَّةِ بفضائلَ لم تجتمع لأحدٍ, وحبَاهُما بكمالاتٍ لم تكتملِ لأحدٍ, حتى رَفَعَهُما اللهُ إلى مرتبةِ سيادةِ كهولِ أهلِ الجنةِ .  فرضيَ اللهُ عنهما وأرضاهما, وجزاهما خيرَ ما جازى خليفةً عن أمتِهِ.

أيها الإخوة الكرام: ولئِن كانَ أبو بكرٍ رضي الله عنه قد سبقَ الجميعَ بعظيمِِ فضائِلِهِ, وكريم شمائِلِهِ, فإنَّ عمرَ رضي الله عنه قد سبقَ مَنْ بعده بفضائِلَ وشمائِلَ لم يلحقْهُ فيها أحد, ولم ينافسْهُ فيها أحد, فهو المحدَّثُ الملْهَمُ, المتفرِّسُ المُسَدَّدُ, أجرى اللهُ الحقَّ على لسانه وقلبه, وفرَّق الله به بين الحقِ والباطلِ, حتى إنَّ الشيطانَ لا يسلُكُ طريقاً فيه عمر, فكانَ أشدَّ الناسِ في الله تعالى, وأعظمَهُمْ له خشيةً. جاءَ خبرُهُ في التوراة : »قرنٌ من حديدٍ, أميرٌ شديد«، ونزل القرآن في مواقفَ كثيرةٍ يوافِقُهُ في اجتهاده, حتى قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: »لو كان بعدي نبيٌ لكانَ عمر«.

أيها الإخوة: لقد استبشرَ أهلُ السماءِ بإسلامِ عمرَ رضيَ الله عنه, فقد كان إسلامُهُ عزَّاً للمسلمين, ونصراً للمؤمنين, حتى جهروا بالإسلام, وصلُّوا عند الكعبة, وقرؤوا القرآن. وكان رضيَ الله عنه يمرُّ على مجالسِ المشركينَ يُعلنُ فيهم إسلامَهُ, ويُجادِلُهُم, حتى إذا اغتاظوا منه قاموا إليه يضربونَهُ ويضربُهُم. فكان هذا حالَهُ حتى أذنَ اللهُ بالهجرة . فلما كانَ يومُ هجرتِهِ, وقفَ على نادِيهم فقال: » ها أنا أخرجُ إلى الهجرةِ, فمن أرادَ لقائي فليلْقَني في بطنِ هذا الوادي «, فلم يتْبعه أحد.  فلما كانَ في المدينةِ لازمَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم, حتى شَهِدَ مَعَهُ المشاهِدَ كلَّها, فكانَ مُستشارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ووزيرَهُ. فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لازمَ أبا بكرٍ, فكان رأسَ أهلِ المشورةِ عنده, ووزيرَهُ المقدَّمَ, حتى تُوفي أبو بكرٍ رضي الله عنه, وقد عَهِدَ بالخلافةِ لعمر, فلم يختلف في ولايتِهِ اثنان, فكانت إمْرَتُهُ إجماعاً لا مثيلَ له, وفتحاً لا سابقَ له. أهْلَكَ ا لله تعالى في زمنِهِ كسرى وقيصرَ, حتى فُرِّقت كنوزُهُما على المسلمين, وفُتحت الأمصارُ, وبُنيت المدنُ, وكُتبت الدواوينُ, وتوسَّعت أرزاقُ الناس, وانتشرتِ الرعيةُ, وامتدَّتِ البلاد. فأعزَّ اللهُ على يده الإسلامَ وأهلَهُ, وأذلَّ الكفرَ وأهلَهُ من اليهود والنصارى والمجوس والمنافقينَ . حتى حَقَدُوا عليه حِقْداً شديداً, فتسلَّلَ جمعٌ من المشركينَ بين صفوف المؤمنين, مُتَّخذينَ دروبَ النفاقِ طريقاً لهم, حتى إذا حانت لهم ساعةٌ أرادَ اللهُ تعالى فيها كَرَامَةَ عمرَ رضيَ الله عنه بالشهادة: طُعنَ غِيلةً في محرابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم, فطُويت صفحةٌ من صفحاتِ المجد, لم يعرف التاريخُ لها مثيلاً, ولم يَخْبُرِ الزمانُ لها شبيهاً.

أيها الإخوة: إنَّ الناظرَ في شخصيةِ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله تعالى عنه ليدخُلُهُ العجبُ والذهولُ: كيفَ حُشيت هذه الشخصية بكلِّ هذه الفضائل والسجايا, والكراماتِ والكمالاتِ, التي لو وُجدتْ واحدةٌ منها في شخصٍ لكان عظيماً, فكيف بها مجتمعةً في شخصٍ واحد.

لقد تميَّزت شخصيــــةُ عمـــــرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه بشدَّةِ الخوفِ من الله تعالى, حتى إنَّ الناظـــرَ في حالِهِ ليظُنُّ أنَّ النارَ ما خُلقت إلا له. فقد كان البكاءُ من خشيةِ الله تعالى يعملُ عملَهُ فيه, حتى لربــما اختــــلفت أضلاعُهُ من شدَّةِ البكاءِ, وقد كان يُرى في وجهه خطَّانِ أسودانِ من كثرة البكاء. دخلَ مرةً على أبي الدرداء رضيَ الله عنه, فتذاكرا حديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: »ليكن بلاغُ أحدِكُم من الدنيا كزادِ الراكِبِ«, ثم قال أبو الدرداء: »فماذا فعلنا بعده يا عمر ؟«, فمازالا يتجاوبانِ البكاءَ حتى الصباح. ومع ذلك فقد كان متَّهماً لنفسه, حتى إنه كان يسألُ الناسَ عن حالِهِ, ويُلحُّ عليهم في كشفِ عيوبِهِ, حتى قال لحذيفةَ رضي الله عنه : »نَشدتُكَ اللهَ, بحقِ الولايةِ عليك: كيف تراني, فقال: ما علمت إلا خيراً«. وكان رضي الله عنه في بعضِ الأحيانِ يأخذُ بيدِ الصبيانِ ويطلبُ منهمُ الدعاءَ. أخَذَ مرةً تِبْنةً من الأرضِ فقال: »ليتني كنت هذه التِّبْنةَ, ليتني لم أُخلق, ليت أمِّي لم تلدني, ليتني لم أكن شيئاً, ليتني نسْياً منْسياً «.  ومع ذلك كان قليل الضَّحِكِ, كثيرَ الجدِّ, لا يعرفُ المُزاحُ إليه سبيلاً.

أيها الإخوة: لقد أورثَهُ هذا الخوفُ هيبةً شديدةً في قلوب الخلقِ, حتى إنَّ الشياطينَ لتنفِرُ منه. وإنَّ الرجلَ ليقولُ الشعرَ في المجلسِ فإذا دخلَ عمرُ صمت, وإنَّ النساءَ ليُجادِلْنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فإذا سمعوا صوتَ عمرَ احتجبْنَ وصمَتْنَ, بل إنَّ المرأةَ لتضربُ بالدُّفِ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا دخلَ عمرُ سَكَنَت. وربما دعا إحداهُنَّ ليَسْألها عن شيء فتُسْقِطُ حملَها, وربما تنحْنَحَ عند الحجَّام: فأحدثَ الرجلُ في سراويله. بل إن أصحابَهُ يهابون سُؤالَهُ, حتى قال ابن عباس رضيَ الله عنهما وهو من جُلسـاءِ عمر: » مكثتُ سنةً وأنا أريدُ أن أسألَ عمرَ عن آيةٍ فلا أســتطيعُ أن أســـألَهُ هيبةً له«. ومن أعجبِ ما يُروى في ذلك أنَّهُ كان يسيرُ أمامَ بعضِ أصحابه إذْ  بدا له أمرٌ فالتفتَ إليهم فجْأةً, فما من أحدٍ منهم إلا وقد خرَّ على رُكْبتيه هيبةً له،  فبكى رضي الله عنه وقال: »اللهمَّ إنكَ تعلمُ أني منكَ أشدُّ فَرَقَاً منهم مني«.

أيها الإخوة: لقد كان عمرُ رضي الله عنه أزهدَ الناس في الدنيا, فقد رُؤيَ وهو على المنبر وقد رقَعَ ثوبهُ بثنْتي عشرةَ رقعةً, بعضها من جلد, وكانَ يُقدِّمُ للمسلمين اللحمَ والخبزَ, ويأكلُ هو من خشِنِ الطعامِ والزيت, حتى اسودَ لونُهُ من أكْلِ الزيت, حتى إنَّ امرأتَهُ اشترت مرةً سَمْناً من مالها وقدَّمته لعمر, فأبى أن يأكُلَ وقال: » ما أنا بذائِقِهِ حتى يحيى الناسُ «.  ودخلَ مرةً على ولــده عبد الله رضيَ الله عنه فوجدَ عنده لحْـماً فقال: »ما هذا اللحم؟ قال اشْتهيتُهُ, فقال: وكلَّما اشتهيتَ شيئاً أكلتَهُ, كفى بالمرء سَرَفاً أن يأكُلَ كلَّمَــا اشْـتهى«.  وكان رضي الله عنه إذا خرجَ في سفرٍ لا يأخذُ خيمةً ولا خِبَاءً وإنما يُلقي كِسَاءَهُ على شجرةٍ ويستظل تحتها.  وكان رضي الله عنه يأكُلُ مع الخدم, ولا ينْخُلُ الدقيقَ ، بل يطبُخُهُ كما هو, ولا يشــربُ الماء بالعسـلِ, يدَّخرُ ذلك عند ربِــهِ عزَّ وجلَّ.

وقد كان رضيَ اللهُ عنه عادِلاً في رعيَّتِهِ حريصاً عليهم, يُنصفُ المظلومَ, ولو كان من نفسِهِ, أو من عُمَّالِهِ, لا يخافُ في ذلك لومةَ لائمٍ, وكانَ إذا بعثَ عاملاً كتبَ أملاكَهُ ليعرفَ الزائدَ في مالِهِ بعد الولاية فيردُهُ على بيت المال, وكانَ يأمُرُهُــم بالعدل, وعدم الاحْتجابِ عن الناس, وأن لا يلبسوا الملابسَ الناعمَةَ, ولا يركبوا المراكبَ الفارهــةَ, ولا يأكلوا النقيَّ من الطعام.

أيها الإخوة: هذا هو عمرُ بنُ الخطاب, وهذا خبرُهُ: فأحبُّوهُ, وعلِّموا أولادَكُم حُبَّهُ, فإنَّ حُبَّهُ إيمانٌ, وبغْضَهُ نفاقٌ. أقول هذا القولَ وأستغفر الله تعالى لي ولكم , فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله بالإسلامِ, والحمدُ لله بالإيمانِ, والحمدُ لله بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم خيرِ الأنام, والحمدُ لله بالصحابةِ الكرام.

اتقوا الله أيها الناس, واعْرِفوا لأهلِ الفضلِ فضْلَهُم, ولأهْلِ الخيرِ مكانَتَهُم, فإنَّ المرءَ مع من أحب.

أيها الإخوة : لما وَلِيَ عمرُ رضي الله عنه أمرَ المسلمين: انشغلَ بهم, حتى إنَّهُ لا يكادُ يُعرَفُ ليلُهُ من نهاره, قد شُغل عن نفسِهِ وأهلهِ, فنهارُهُ في سياسةِ الناس, وإدارةِ الدولةِ, وقضاءِ الحاجاتِ, وفضِّ الخصوماتِ, وأما ليلُهُ ففي تلمُّسِ حاجاتِ الناس, وحراسةِ المدينة, ورعايَةِ إبلِ الصدقةِ, وبيتِ المال. وليسَ بغَريبٍ أن تجدَ أميرَ المؤمنينَ يختلِفُ إلى امرأةٍ عمياءَ في أقصى المدينة يُصلِحُ حالَها, ويَكْنُسُ بيتَهَا. وربما وجدتَهُ يحملُ على ظهرِهِ طعاماً لبعضِ الفقراء يُطعِمُهُم في الليل, وربما مرَّ على المرأةِ في المخاضِ وهي تصيحُ وليس عندها أحدٌ, فيأخذُ زوجتَهُ لتمرِّضَهَا حتى تلد. وربما سَمِعَ صُراخَ الصغيرِ فيتتبَّعُ الصوتَ حتى يقفَ على أمِّهِ فيعظُها في ولدها. ولما عَلِمَ أنَّ بعضَ الأمهاتِ يستعجلنَ في فِطَامِ الصغارِ قبلَ تَـمَـامِ السَّنَتَينِ؛ لأنَّ العطاءَ السنويَّ لا يكونُ إلا للمفطومينَ: حَزِنَ حزناً شديداً, وأعلنَ في الناس أنَّ العطــاءَ لكُـــــلِّ طفــلٍ وُلــد في الإســلام, وأمرَ النســــاءَ أن لا يستعجلنَ الفِطام.

وقــد كانَ رضيَ اللهُ عنه أميناً على أموال المســــلمينَ, فقد كان لا يأخذُ من بيتِ المالِ إلا درهمينِ في اليوم, وكان يقول: »إني أنزلتُ مالَ اللهِ مني بمنزلةِ مالِ اليتيمِ, فإن استغنيتُ : عففْتُ عنه, وإن افتقرتُ أكلتُ منه بالمعروف«. ورأى رضي الله عنه مرةً ابنةَ ولدِهِ عبدالله وقد أصَابَها الـهُزَالُ والضعفُ, فلم يعرفها, فأُخبرَ بأنها ابنةُ عبد الله, فسألَ عن سبب هُزالها وضعفِ جسمها, فقال عبد الله: »بســـــببِ منعكَ ما عنــدَكَ«, يعني من المال, فقال رضي الله عنه: »والله ما لكَ عندي غيرُ سهمِكَ من فيءِ المسلمينَ, وَسِــعَكَ أو عَجَزَكَ, هذا كتابُ الله بيني وبينَكُم «.  ولما قدمت عليه بعضُ الأموالِ جاءتهُ ابنتُهُ حفصَةُ رضي الله عنها, فقالت : »يا أميرَ المؤمنينَ حَقُ أقربائِكَ من هذا المال, قد أوصى الله عز وجل بالأقربينَ«, فقال لها : » يا بنيةُ, حقُ أقربائي في مالي, وأما هذا ففيءُ المسلمينَ, غشَشْتِ أبَاك, ونصحتِ أقرباءَكِ, قومي, فقامت تجُرُّ ذيلها «.  ولما جيءَ إليه بتاج كسْرى, نظر إليه وقال : »إنَّ قوماً أدُّوا هذا لأمناء, فقال له عليُّ رضي الله عنه: إنَّ القومَ رأوْكَ عَفَفْتَ فعفُّوا, ولو رتعتَ لرتعوا «.

أيها الإخوة: كانَ عمرُ رضيَ الله عنه في آخرِ حياتِهِ يُكْثِرُ من الدعاء يقول: »اللهم كَبِرتْ سنِّي, وضعُفت قوَّتي, وانتشرت رعيَّتي, فاقْبضْني إليكَ غيرَ مُضيِّعٍ ولا مفرِّط «, وكان يدعو يقول: »اللهمَّ ارزقْني شَهادة في سبيلكَ, واجعل موتي في بلدِ رسولِكَ«، وكانَ الناسُ يتعجَّبونَ من دعوتِهِ هذه, حتى انبعثَ المجوسيُّ الخبيثُ أبو لُؤلُؤةَ, وعمرُ يُصلي الفجر بالناس فطعنَهُ ثلاثَ طَعَنَاتٍ قاتلةٍ, وطعنَ مَعَهُ ثلاثةَ عَشَرَ رجلاً ماتَ منهم ستَّةٌ, ثم قتلَ الخبيثُ نفسَهُ لما يئسَ من الهرب. فأكْمَلَ الناسُ صلاتَهُم مقتدينَ بعبدالرحمن بنِ عوفٍ رضي الله عنه, وحُمِلَ رضيَ اللهُ عنه في جراحِهِ إلى بيتِهِ, فصلى الفجرَ وجُرْحُهُ ينزِفُ, فلما أيقنَ بموتِهِ أوصى بالخلافة في ستَّةٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, وأعتقَ كلَّ عبيدِهِ. وأخذَ الناسُ يدخلونَ عليه يبشرونَهُ بالجنةِ والرضوان, فقال لهم: »المغرورُ من غَرَرْتُمُوهُ, لو أنَّ لي ما على ظهرِهَا من بيضاءَ وصفراءَ لافتديتُ به من هولِ المطلَعِ«.  ولما دخلَ عليه ابن عباسٍ رضي الله عنهما فقال له : »هنيئاً لكَ الجنَّةُ, قال له: غُرَّ بهذا غيري يا بنَ عباس,  ثمَّ التفتَ إلى ابنِهِ عبدالله فقال له ضع خدِّي على الأرض, فَكَرِهَ أن يفعلَ ذلك, فقال له: ضع خدِّي على الأرض لا أمَّ  لك, فوضَعَ خَدَّهُ على الأرضِ حتى اختلطت لحيتُهُ بالتراب, ولصِقَ الطينُ بعينيـه وهو يبكــي ويقول: يا ويلَ عمرَ وويلَ أمِّهِ إن لم يتجاوزِ اللهُ عنه « ، وكانَ ذلكَ آخرَ كلامِهِ من الدنيا رضي الله عنه. وقد ذُهلَ الناس بموتِهِ رضيَ اللهُ عنه, إذ كان ذلك فجأةً لم يُسْبقْ لهم مثلُها, فلم يُرَ أحدٌ إلا باكِياً, حتى إنَّ الطفلَ ليدخُلُ على أمِّهِ يقولُ : يا أمَّاهُ أقامتِ القيامةُ ؟ فتقول: بل قُتلَ أميرُ المؤمنين.  وقال طلحةُ الأنصاري رضي الله عنه: »والله ما من أهلِ بيتٍ من المسلمينَ إلا وقد دخلَ عليهم في موتِهِ نقصٌ في دينهم وفي دنياهم«.  وقالت أمُّ أيمنَ رضيَ اللهُ عنها: »اليومَ وَهَىَ الإسلامُ« , يعني ضعُفَ الإسلامُ, وصدقت فإنَّ الفِتَنَ لم تظهر في المسلمينَ إلا بعد وفاتِهِ, فهو البابُ الذي كان موصوداً في وجهها.

اللهـــم ارضَ عن عمرَ وعن آلِ عمرَ, وجازه خيرَ ما جَزَيْت خليـفةً عن