الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ السيرة النبوية @ 1ـ أهمية الهجرة النبوية في حياة الدعوة الإسلامية


معلومات
تاريخ الإضافة: 6/10/1427
عدد القراء: 17915
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

الخطبة الأولي:

الحمدُ لله الذي نصرَ عبْدَهُ وهزمَ الأحزابَ وحدَهُ، أحمده وأستعينه وأستغفره، وأعوذُ باللهِ من شرور أنفسنَا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضـلل فلا هـــاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسولُهُ بلَّغَ الرسالةَ وأدَّى الأمانة، وجاهدَ في الله حقَّ الجهاد، حتى أُوذيَ في نفسِهِ وشخصِهِ، وأهلِهِ وحزبِهِ، فَصَبَرَ حتى أتاهُ وعْدُ ربـِّـهِ، فنَصَرَهُ وأيـَّـدَهُ، وجعلَ كلمةَ الذينَ كفروا السفلى، وكلمةُ اللـه هي العليا. فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه, ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد

فاتقوا اللهَ عبادَ الله، واقتدوا بنبيِّـكُم، خيرِ المهاجرينَ، وإمامِ الصابرين، وسيِّدِ المرسلينَ .  بعثَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ على رأسِ الأربعينَ من عمره، فأنزلَ عليه قولاً ثقيلاً، تنوءُ عن حملِهِ الجبالُ، فوعاهُ قلبُهُ الشريفُ، وتزكَّت به روحُهُ الطاهِرَةُ، فمكث بمكةَ ثلاثَ عشرةَ سنةً، يدعو إلى الله عزَّ وجلَّ، ويصبِرُ على الأذى. حتى إذا وصلت الدعوةُ الإسلاميةُ في مكةَ إلى منتهاها، فلم يعد للحقِ فيها مجالٌ: أَذِنَ اللهُ للمؤمنينَ المستضعفينَ بالهجرةِ، لتنتقلَ الدعوةُ من طورٍ إلى طورٍ جديد، له خصائصُهُ وطبيعَتُهُ. حيثُ اجتمع فيه شملُ المسلمينَ، الذين أسلموا وجوهَهُم لله تعالى, وأعْطَوْا قيادَهُم لصاحبِ الدعوة، وإمامِ الأمَّةِ عليه الصلاةُ والسلام، فكانوا كالأرضِ الِخصْبةِ لبذرِ البذور، وغرسِ الشتائل .  فنزلت الأحكامُ، وتتابعتِ التشريعاتُ، ترعى المجتمعَ الناهضَ الجديد، وتفتحُ صفحةً جديدةً من سجلِّ الدعوةِ، تختلفُ في طبيعتها وظروفِهَا عن الفترةِ المكِّيَّةِ السابقة. ظَهَرَ من خلالِها نورُ الإسلامِ، بعد أن حجَبَهُ المشركونَ دهراً من الزمان. فكانت المدينةُ المنورةُ مجمعَ المؤمنين، ومأوى المسلمين، توحَّدت فيها الكلمةُ، وتجمَّعت فيها الأفئدةُ، فالكلُّ إخوةٌ في الله تعالى، قد صاغَهُمُ الإسلامُ صياغةً جديدةً، وربَّاهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم تربيةً فريدةً. حتى توحَّدت القلوبُ، واتحدتِ الأرواحُ، وكأنَّهم الجسدُ الواحد، لا أحدَ أحقُّ بمالٍ من أخيه، قد بلغَ الإيثارُ منهم قِمَّتَهُ، ووصلَ الحبُّ بينهم ذِرْوَتَهُ. فخاضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهؤلاءِ الأبرارِ غِمارَ الدنيا، ففتحَ بهم القلوبَ والأمصارَ، ودَكَّ بهم الأصنامَ والأحجَارَ. فتزكَّت بالتوحيدِ النفوسُ، واستنارت بالهدايةِ العقولُ، فعمَّ الخيرُ البلادَ، واهتدى بالوحي العباد. فالكتاب كتابُ الله، والهَدْيُ هديُ محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا مكانَ للباطلِ بعد الحقِّ، ولا موقعَ للضلالِ بعدَ الهُدَى.  فقد أَفَلَتْ نجومُ الأحبارِ والرهبانِ، واندحرت أقوالُ الفلاسفةِ والكهان. قد أشرقت شمس الهداية للسالكين، واستبانَ الحقُّ للراغبــينَ.  فلا لاتَ ولا عُــزَّى، ولا قيصرَ ولا كسرى. قد جاءَ النهارُ بأنوارِهِ، وانجلى الليلُ بأوهامِهِ.

أيها الأخوة الكرام: لم تكن حادثةُ الهجرة النبويَّةِ حادثةً عاديةً في حياةِ الدعوةِ الإسلاميةِ، وإنما هي أمُّ الأحداثِ، وبؤرةُ الصراعِ بين الحقِّ والباطلِ، تعرَّضَتْ فيها الدعوةُ الإسلاميةُ إلى أخطرِ المواقف، وأشدِّها على الإطلاق، وذلكَ حينَ عزمَ المبطلونَ على قتلِ صاحبِ الرسالةِ عليه الصلاة والسلام، فلا تقومُ للدين الجديدِ قائمةٌ بعدها، فلما وصلَ المكرُ قمَّتَهُ، وبلغَ الكيدُ ذِرْوتَهُ: ظهرت المعجزةُ، وتدخَّلت العنايةُ الإلهيةُ، حينَ انقطعت الأسبابُ الماديَّةُ، والوسائلُ البشرية: فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينسَلُّ من بينِ أربعينَ شاباً مسلَّحاً مُترصِّداً لــه، فينطلقُ إلى أبي بكر رضي الله عنه، الذي قد أعدَّ لهذه الرحلةِ العظيمةِ عُدَّتَها، ووضع لها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خطَّتَها، فخرجا سوياً من مخرج خلفي لبيت أبي بكر، فذهبا في اتجاه الجنوبِ بدلاً من الشَّمال، تعميةً للمشركين. فكَمَنَا ثلاثةَ أيامٍ في غار ثور، حتى يبردَ الأمْرُ، وييئَسَ المشركون.  وقد اتَّخَذ الرسول صلى الله عليه وسلم كلَّ الأسباب الممكنة لنجاح الهجرة، فاستفاد من كلِّ طاقةٍ بشريةٍ يمكن أن يُستفاد منها، فكان عبد الله بنُ أبي بكر رضي الله عنهما لنقل أخبار المشركينَ بمكة، وكانت أسماءُ بنتُ أبي بكر رضي الله عنهما لجلب الطعام، وكان عامرُ بنُ فُهيرة رضي الله عنه يمرُّ بأغنامه على آثار عبد الله وأسماء فيُعمِّي عليها، ويسقي المهاجِرَيْنِ العظيميْنِ من ألبانها. وأما عبدُ الله بنُ أُريقط رغمَ أنَّهُ كان على دين قومه إلا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم استفادَ من أمانته، وخبرته بالطرق؛ ليكونَ دليلَ الهجرةِ إلى المدينة المنورة، حيث واعدَهُ أبو بكرٍ رضي الله عنه  عندَ جبلِ ثورٍ بعد ثلاثة أيام، فجاءَ الرجلُ في موعده براحلتين، لإنجاز أعظمِ هجرةٍ في التاريخ الإنساني.

أيها الأخوة الأفاضل: انطلقَ الركبُ المباركُ غرباً نحوَ ساحل البحر، ثم شمالاً نحو المدينة المنورة، عبرَ طريقٍ وعِرَةٍ لا يسلُكُها أحد. فتجلَّت في هذا المسيرِ الراشد شخصيةُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وعظيمُ ثباتِهِ، وكمالُ توكُّلهِ على ربّـــِهِ عز وجل، فكــان عليه السلام لا يلتفت في مسيره، ولا يتطلَّعُ إلى غير السماء. وحُقَّ له ذلك، فلماذا يلتفِتُ ، وقد اتَّخَذَ الأسبابَ كأكمل ما يكونُ، وحزمَ أمرَهُ كأفضلِ ما يمكن، فلم يعد بوسْعِهِ أكثرَ من ذلك. في الوقــت الذي كان إشــفاقُ أبي بكر عظيماً. وهَلَعُهُ كبيراً.  إذا تذكَّر الراصدين سارَ أمامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكرَ  الطالبين سار خلفه. وليس ذلك لضعفِ ثقتِهِ بالله، أو لشكٍ في نصرِ الله ، وإنما ليكونَ نحْرُهُ دون نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكونَ دَمُهُ دونَ دم رسول الله صلى الله عليه. إنه الحبُّ الصادِقُ لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإشفاقَةُ الكبرى على مصيرِ الدعوة، وسلامةِ الرسالة.

أيها الأخوة الكرام: لقد استهلكت هذه الرحلةُ العظيمةُ أكثرَ من عشْرةِ أيامٍ، كان أهلُ المدينةِ يخرجونَ إلى أطرافها ينتظرونَ الركب المبارك ، وقد طارت أفئــدَتُهُم شـــوقاً لرؤيـــة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يدرونَ هل تنجحُ الهجرةُ، فينعمونَ بصحبته، وشَرَفِ نُصْرَة رسالتـه، أم تحول بينهم وبينه الأقدار، فيُقْتَطَعُ دونَهم، فيعودونَ إلى ما كانوا عليه من الضلالاتِ الجاهليةِ، والثاراتِ القبليَّةِ. فما أن طَلَعَ الركب المُظَفَّرُ بين سرابِ النهارِ حتى عادَ إلى النفوسِ استقرارُهَا، وظهرت البهجةُ على الوجوهِ، وانبعث الأملُ من جديد، فأشرقَتِ المدينةُ بالأنوار، حتى أضاء منها كُلُّ شيء. هذا رسولُ الله، هذا حبيبُ الله، هذا الأملُ بعدَ اللهَ.

أيها الأخوة: لـمَّـا دخلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصنَ المدينةِ، ودارَ نُصْرتِهِ، لم يكن من المُسْتغربِ أن يكون أوَّلُ حديثه للناس عن معاناتِهِ في الهجرة، وما لاقاهُ من المشركينَ بمكةَ، ومع هذا فقد كانَ من أول كلامِهِ: » أيها الناسُ أفشوا السلامَ، وأطعموا الطعامَ، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليلِ والناسُ نيامٌ : تدخلوا الجنَّةَ بسلام « .إنَّها النفسُ العظيمةُ، والروحُ الذكيَّةُ، إنَّها الرحمةُ المُهداةُ من ربِّ العباد.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ) لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيـزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّـمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْـمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( .

أقول ما سمعتم وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله يُعزُّ أولياءَهُ ويُذِلُّ أعداءَهُ. نصْرُهُ قريب، ولطفُهُ عجيب. وعْدُهُ حقٌ، ولقاؤهُ حقٌ. لا إله إلا هو يفعلُ ما يشاء، ويحكُمُ ما يريد. بيده الخير وهو على كلِّ شيء قدير.

أيها الإخوة الكرام: يقول الله تعالى عن حادثة الهجرة في كتابه العزيز: ) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيـَّـدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: »رأيتُ في المنــــامِ أنِّي أُهاجــر من مكةَ إلى أرضٍ بها نخل، فذهبَ وَهَلي – يعني ظنِّي – إلى أنَّها اليمامــةُ أو هَجَر، فإذا هي المدينةُ يثْربُ « .

أيها الإخوة :  إنَّ  لطفَ المولى عز وجل كانَ يكلأُ الدعوةَ الإسلاميةَ من أولِ أمرها، فرغَم ما حَفَّتَ بها من الشدائدِ والفتنِ، وأعمالِ التنكيلِ والإبــادةِ : إلا أنها لم تُستأصل، بل بقيت ثابتةَ الأقدام، راسخة الأركان، حتى أذنَ اللهُ تعالى بالهجرة إلى المدينة، فكانت فتحاً جديداً للدعوة، ونصراً عظيماً للإسلام وأهلِهِ. فكان لزاماً على كلِّ مُؤمنٍ صادقٍ أن ينفُضَ يديه من ديار الكفر والشِّركِ، فيهاجرَ إلى دارِ الإسلام بالمدينة، فنالَ شرفَ الهجرة أقوامٌ، وفات آخرينَ. حتى إذا كان فتح مكة، انقطعَ فضلُ الهجرةِ إلى المدينة، فكانت البيعةُ بعد ذلك على الجهادِ والإسـلام، فقد قال عليـه الصلاة والسلام: » لا هجرةَ بعد الفتحِ ولكن جهادٌ ونيةٌ « .

وكان عليه الصلاة والسلام يوجِّهُ المؤمنينَ الراغبينَ في فضلِ الهجرة إلى العمل الصالح فيقول: » المسلمُ من سلمَ المسلمونَ من لسانهِ ويده، والمهاجرُ من هَجَرَ مانهى الله عنه« . ولما سُئل عليه الصلاة والسلام: »أيُّ الهجرةِ أفضلُ، قال: أن تهجرَ ما هَجَرَ ربُّكَ عز وجل« .

فاتقوا الله أيها الناس، واهجْروا ما أَمَرَكُم اللهُ بهجْره من المعاصي والمنكرات، وصِلُوا ما أَمَرَكُم الله تعالى بوصْلِهِ من الصالحاتِ والفضائلِ. فما بالُ أناسٍ لا يهتدونَ، ولا يتبصَّرونَ، ولا يتذكَّرونَ، وكأنما خُلقوا عبثاً، وكُلِّفُوا شططاً. لا يهجرونَ معصيةً، ولا يصِلُون فضيلةً. قد أخفقَ أحدُهُم أن يهجرَ شهوةً من شهواته، أو أن يفطِمَ نفسه عن لذةٍ من مَلذَاتِهِ، ثم لا يسْتَحْيي بعد ذلك أن يتمنَّى على الله الأمانيَّ ، والمهاجرُ المجاهدُ من أصـحابِ النبي صلى الله عليه وسلم يتمنَّى أن يخــرجَ من الدنيـا لا له ولا عليه، بل إنَّ أَحَدَهُم ليموتُ وحاجتُهُ في صدره، لا يصلُ إليها في الدنيا، مع ذلكَ يخــشى من الله ما لا نخشاه، ويخاف منه ما لا نخاف، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فاتقوا اللهَ أيها الناس.  واعْرفُوا قدرَ أنفسِكُم، فإن فاتكُم فضلُ الهجرةِ إلى المدينة فلا يفوتَـنَّـكُم فضلُ الهجرةِ من المعاصي إلى الطاعات.