1ـ كلمة التنمية الإقتصادية

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضلَّ له, ومن يضلل فلا هاديَ له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله, أتقى البريةِ أجمعين, ورسولُ ربِّ العالمين, أرسلَهُ بالهدى ودين الحق, فبلَّغَ الرسالة, وأدَّى الأمانة, ونصح الأمة, حتى تركَهَا على المحجَّةِ البيضاء, ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها إلا هالك.  أما بعد:

فاتقوا الله أيها الناس، فإن الله تعالى يقول:

) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (.

) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (.

) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (.

أيها الإخوة : تسعى الأمَمُ قاطبةً نحوَ التنميةِ الاقتصاديةِ الشاملةِ, وتُقدِّمُ في سبيل تحقيقها جهوداً كبيرة رغبةً في الاكتفاء الذاتي, والبلوغِ بالمواطنِ درجةً عاليةً من الرفاهيةِ الاقتصاديةِ, والوفرةِ المالية.

وعلى الرغم من الجهودِ المضنيةِ التي تُقدِّمها الأممُ والشعوبُ لتحقيق هذه الرفاهية والوفرة فإنَّ درجاتٍ كبيرةً من الإخفاق قد لحقت بهذه الجهود, إلا في دولٍ معـدودةٍ في هذا العالم, فما زالت دولٌ كثــيرةٌ ولا سيما فيما يُسمَّى بالعالم الثالث, ترزحُ تحت ثالوث الفقرِ والمرضِ والجهلِ, لم يتحقَّق من آمالها وأهدافها الاقتصادية شيء يُذكر, تنتقل من تخلُّفٍ إلى تخلف, ومن أزمة إلى أزمة, قد تبدَّدت أحلامُ شعوبها, وضاعت آمالُها ضمن أمانيَّ من الدعايةِ الفارغةِ, والوعودِ الكاذبةِ.

إنَّ جماعاتٍ كاملةً من خلق الله, تعيش اليوم في فقر مُدقع, قد يصل عددهم إلى نصفِ سكانِ العالمِ, لا يجدون من رديء الطعامِ ما يسدُ جوْعَتَهم, ولا يجدونَ من عَكَرِ الماءِ ما يروي ظمأهم, فضلاً عن أن يجدوا المسكنَ المريحَ, والمركبَ الهنيءَ, والتعليمَ المناسبَ, والعلاجَ المفيدَ.

لقد أثبت الواقع المعاصر إخفاقَ نماذجِ التنميةِ الاقتصاديةِ التي ينصَحُ بها المستشارونَ في الصناديق والبنوك الدولية, فلم تزدْ هذه الاستشاراتُ والنصائحُ الدولَ الناميةَ إلا تخلفاً وتعثراً.

إنَّ صراعَ التسابقِ الاقتصادي, والتنافسِ المحمومِ بين الدول المتقدمة على مواقع النفوذ التجاري, والسعي نحو السيطرةِ على الأسواق العالمية والإقليمية والمحلية, كلُّ ذلكَ لا يسمحُ لهذه الدول المتنفِّذة بمزيد منافسين لهم من الدول النامية, المتطلِّعة نحو التنمية الاقتصادية, إنَّ مصلحتَهُم الاقتصاديةَ أن يبقى الفقير فقيراً, والمعْدِمُ معْدِماً, لا يشكِّلُ خطراً على مصالحِهِم الاقتصادية.

أيها المسلمون : أيُّ مصلحة تتحققُ للدول الكبيرة حين تنجحُ الدولُ الناميةُ في تحقيق درجات عالية من الاكتفاء الذاتي, والتنمية الشاملة؟ أين سوفَ تجدُ الدولُ الكبيرةُ أسواقاً لمنتجاتها الاستهلاكية حين تُغلق أسواق الدول النامية لاكتفائها الذاتي؟

إنَّ الوجهةَ العالميةَ في ظل العولمةِ الاقتصادية تتوجَّهُ بقوةٍ إلى انقسام العالم إلى قسمين, قسمٌ أغنياءُ مُنتجون, وقسمٌ فقراءُ مُستهلكون.

أيها الإخوة : لقد أثبتت التجاربُ أنَّ التنميةَ الاقتصاديةَ لا تأتي من الخارج, وإنَّما هي إرادةٌ صادقةٌ من أعماق الشعب نحو التحرر من التخلف, والرغبة الأكيدة في التقدم والازدهار, إنها انطلاقةٌ من الداخل نحو الانفلاتِ من ربقَة التخلُّف والتبعيَّةِ, نحو آفاقِ العلمِ والمعرفةِ, إنَّ التنميةَ انطلاقةٌ واعيةٌ نحو حُسْنِ التعاملِ مع سنن الله تعالى التي بثَّها في الكون, والتوجُّه ببصيرةٍ نحو الاستفادة من  الكنوز التي ادَّخرها اللهُ للمؤمنين, وليست التنميةُ تقليداً للآخرين, أو مجاملة للكافرين, رغبةً في جلبِ استثماراتهم الاقتصادية.

أيها المسلمون : إنَّ الاستثماراتِ الأجنبية التي تُقام في بلاد المسلمين غارقةٌ في المحرمات, ملوثةٌ بالموبقات, وأنَّى للمالِ الغربي أن ينجوَ من الربا, والخمرِ, والاحتكارِ, والدعايةِ الممنوعة, لقد درجَ الاستثمارُ الغربي وتعوَّد على أن يلتقطَ رزقَهُ ملوثاً بالحرام, والمؤمنُ يأبى القرشَ الحرامَ أن يخالطَ ماله.

نعم قد يُحقِّقُ الاستثمارُ الأجنبيُّ شيئاً من المصلحة الاقتصادية, ولكن كم هو حجم المفسدة الإيمانيةِ والأخلاقيةِ منه؟ إن توافق المسلمين الفكري والأخلاقي مع الغرب في أنشطتِهِ المختلفةِ أمرٌ يكاد يكون مستحيلاً, إلا في حالةٍ واحدة حين يذوبُ أحدُهُما في الآخر, فلا يبقى لأحدِهِما ما يتميَّزُ به عن الآخر, وهذا وضعٌ لا يرضاهُ المؤمنُ, ولا يتقبَّلُهُ الكافر.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن ُتطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّـهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ومَن يَعْتَصِم بِاللَّـهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله والصلاةُ والسلام على سيِّدِنا وحبيبنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

أيها المسلمون : لئن جازَ لأمَّةٍ من الأمم أن تنطلقَ بتنميتها في غير الاتجاه الصحيح, فإنَّ هذا لا يجوز للأمةِ المسلمةِ التي تحمل الهدى والنور, وتعرفُ بالتحديدِ الاتجاهَ الصحيحَ للتنميةِ الذي وضَعَهُ اللهُ لها.

إنَّ الطبيعةَ المسخَّرة بإذن الله تعالى لن تبخلَ بكنوزها على الأمَّةِ المسلمةِ بعد أن أكرمت بها الأممَ الجاهلية, أَمِنَ المعقول أن يُكرمَ اللهُ أهلَ الكفر والشركِ، ويفتحَ عليهم كنوز الأرض, ثم هو بعد ذلك يحرِمُ أهلَ الإيمان والتوحيد من بركات الأرض؟ إن هذا لا يكونُ إلا حينَ يفرِّطُ المسلمونَ في تمسُّكِهِم بدينهم, ويخطِئون الطريقَ الصحيحَ للتنميةِ الاقتصاديةِ, فعندها لابد من العقوبةِ بشيءٍ من الجوعِ ونقصِ الثمارِ, لعلهم يستيقظونَ من غفلتهم, ويعودونَ إلى ربهم. َ

أيها المسلمون : إنَّ كنوزَ الأرضِ وخيراتِهَا بيد الله تعالى وحده, يُؤتيها من يشاء, وإنما يُستجلبُ رزقُهُ وفضلُهُ بطاعته, وتنفيذ أوامره, وليس بمعصيته, ومخالفة أمره, ) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (, ) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ (.

اللهم أغننا بحلالِكَ عن حرامك, وأغننا بك عمَّن سواك, وارزقنا من فضلكَ وأنتَ خيرُ الرازقين.