4ـ وجوب الحج واستحضار شعائره

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له.  وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.  أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلِّه ولو كره المشركون.   أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله, وارجو الله واليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين. ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ، ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (، ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (.

أيها الإخوة الكرام : حُجاج بيتِ اللهِ الحرام, إنكم تحيونَ في هذه الأيام, أفضلَ أيامِ السنة, وأحبَّها إلى الله عز وجل, فهي أيامُ العشْر من ذي الحجة, يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: »ما من أيامٍ أحبُّ إلى الله فيهنَّ العملُ من أيامِ العشر, قيل: يا رسول الله ولا الجهاد؟ قال ولا الجهاد, إلا رجلٌ خرجَ بنفسه وماله فلا يرجع من ذلك بشيء«. ومن يطيق أن يخرج في سبيل الله, فلا يرجعَ بنفسه ولا بماله ؟

وهكذا عباد الله, تتتابعُ علينا مواسمُ الخير والبركة, فبالأمسِ القريب, ودَّعنا شهرَ رمضانَ المبارك, فذهب إلى ربه, وانطوتْ أيامُهُ شاهدةً على الناس, محسِنِهمْ ومُسيئهمْ. وها نحن اليوم, نستقبل ركناً عظيماً من أركان الإسلام, افترضه الله عز وجل على الناس, مرة في العمر, لمن استطاع مؤنته وقَدِرَ على ذلك , ) وَلِلّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (،  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رُوي عنه محذِّراً المتقاعسين عن أداء هذه الفريضة مع قدرتهم عليها:  « من ملك زاداً وراحلة تُبلِّغه البيت الحرام ثم لم يحُج فليس عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً ».

أما فضلُ الحج فعظيم, يقول عليه الصلاة والسلام: « من حج لله, فلم يرفث ولم يفسُق, رجع كيومِ ولدته أمه » ،  والرفث هو الكلام في قضايا الجماع, والفسق هو عموم المحرمات. ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: « ليس للحجَّة المبرورة جزاءٌ إلا الجنة». وسئل عليه الصلاة والسلام: « ما برُّ الحج؟ قال: إطعامُ الطعام وترك الكلام »، وفي رواية قال: « إطعام الطعام وطيب الكلام ».  قال الله تعالى: ) الْـحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْـحَجَّ فَــلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْـحَجِّ (.

وينبغي للحاج أن يحرصَ على أداء المناسك على الوجه الأكمل. ففي اليوم الثامنِ من ذي الحجة, يُستحبُ له أن يصليَ الظهر والعصرَ والمغربَ والعشاءَ والفجرَ بمنىً, ثم يذهبَ في ضحى اليوم التاسع إلى عرفات, فيصليَ الظهرَ والعصرَ, جمعاً وقصراً, في وقت الظهر, ثم يجتهد في الدعاء مستقبلاً القبلة باكياً متذللاً متخشِّعاً لله عز وجل.  وأفضل الذِّكر في هذا اليوم العظيم هو قول: « لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير » ،  يقول عليه الصلاة والسلام في فضل يوم عرفة: « ما يومٌ إبلــــيسُ فيه أدْحَرُ, ولا أدْحَقُ, ولا هو أغيظُ من يومِ عرفة, مما يرى من تنزُّل الرحمة, وتجاوزِ اللهِ تعالى عن الأمور العظام«. فأروا اللهَ من أنفُسِكم خيراً في هذا اليوم العظيم. فما أحوَجَنا إلى مغفرة الله وعفوه. فقد تلبَّسْنا بالذنوب والخطايا, وثقُلت كواهِلُنا بالآثــام والمنكرات, وليس لنا إلا الله عز وجل يغفر لنا ويرحمنا،  ) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّـهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّـهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(.

وعند غروب الشمس في ذلك اليوم العظيم, ينفِرُ الحجَّاجُ وعليهم السكينةُ إلى مزدلفة, فلا يضعون رحالهم حتى يصلُّوا المغرب والعشاء جمعاً وقصراً ، والأفضلُ ألا يخرجَ من مزدلفة إلى منىً إلا بعد صلاة الفجر إلا أن يكون من الضعفة أو معه نساء. فيرمي الحاج جمرة العقبة الكبرى بسبع حصيات ثم ينحرُ إن كان عليه هدي, ثم يحلقُ أو يقصِّرُ من شعره, وبذلك يكون قد تحلَّلَ التحلُّلَ الأول، ويجوز له كلُّ شيءٍ إلا الجماع، فإن طاف بالبيت وسعى إن كان عليه سعيٌ فقد حلَّ له كلُّ شيءٍ حتى النساء. ولم يبقَ عليه سوى المبيتِ في منىً أيام التشريق، ورمي الجمرات، وطواف الوداع عند الرحيل.

أسأل الله عز وجل أن يُيسِّرَ حجَّنا، ويغفِرَ ذنبنا، ويسترَ عيبنا إنه جَوَاد كريم, أقول هذا القول وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على إمام المرسلين, وسيِّد الأولينَ والآخِرين, وإمامِ المتقين ورسولِ ربِّ العالمين, نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوةُ الحجاج لابد أن يستحضر الحاجُ عند أدائِهِ المناسكَ, جانبين, جانبُ الإخلاص لله والمتابعةِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وجانبٌ آخر وهو الأثر النفسي عند أداءِ هذه المناسك, وما ينبغي للحاج أن يستشعِرَه في نفسه.

لابد للحاج أن يستحضر عند تجرُّده من ملابسه المعتادة ولُبْسه رداءين أبيضين أشبَهَ ما يكونان بالكفن, فلابد من أن يستحضر في هذا الموقف الموت الذي هو أقربُ إليه من كلِّ شيء.

أما موقِفُهُ في عرفات, مع الناس شعْثاً غبْراً ضاحين, فلابد أن يتذكَّر يومَ يجتمعُ الناسُ في صعيدٍ واحدٍ, عراةً حفاةً غُرْلاً, يوم يخرجون من قبورهم للحساب والجزاء يوم القيامة. كما يستحضرُ في هذا المقامِ تساويَ الناسِ عظيمِهم وحقيرِهم, غنيهم وفقيرهم, أبيضِهم وأسودِهم. لا فضلَ لأحدٍ على أحد, الكلُّ سواسيةٌ في المقام وفي اللباس, وفي الأعمال والمناسك.

كما يستحضرُ الحاجُ عند الذبح, عندما يضعُ ذبيحتهُ على الأرض, يستحضرُ مقامَ إبراهيمَ خليلِ الرحمن, عندما شرعَ في ذبح ولده إسماعيل, طاعةً للهِ عز وجل, وتقديماً لمحبوبات الله على محبوبات النفس وشهواتِها.

كما يستحضر مقام هذا النبي الكريم عند رمي الجمار, فقد وَقَفَ إبليسُ عليه لعنةُ الله لإبراهيم عليه السلام في طريقه لتنفيذ أمر الله ثلاث مرات. وفي كلِّ مرة يرجُمُهُ عليه الصلاة والسلام بالحصيات حتى يأَّسَهُ وقنَّطه, وشرع في تنفيذ أمر الله عز وجل, ثم كان الفرجُ من الله.

فلابدَّ للحاج, أن يُجدِّدَ عِدَاءَهُ للشيطان, ويعقد العزمَ على أن يخالفه فيما يوسوسُ به من الأمر بمعصية الله, ومخالفة شرعه, ويحْذَرَ من حيلِهِ ومكْرِه, فهو لا يدخلُ على المسلم من أبواب السوءِ, بل يطرقُ أبوابَ الخيرِ قبل ذلك, فيُوهِمُ الرجلَ, ويُزيِّنُ له السوء, حتى يجعلَهُ حسناً. وهكذا حاول أن يدخلَ على إبراهيم خليل الرحمن, من باب الرحمة والشفقة، فقال له: كيف تذبح ولدك والسباعُ والوحوشُ الضاريةُ لا تفعلُ هذا. ولكنه كان عليه السلام في كلِّ مرةٍ يرجُمُهُ ويردُ كيدَهُ بالتكبير والتهليل والتوحيد, والانصياع لأمر الله عز وجل. وهكذا الحاج لابد أن يستشعرَ هذه المعانيَ العظيمة, فيخرجَ من حجهِ بدروسٍ عظيمة تنفعهُ في حياتهِ, وتثبِّتُهُ عند الفتن.

ألا وصلوا على البشير النذيـــر, الذي علَّمَكُم المناسـكَ, وقال: « خذوا عني مناسِكَكُم ».  قال الله عز وجل: ) إِنَّ اللَّـهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (. اللهم صلِّ وسلم على نبيك محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم يا الله يا كريم يا رحيم يا سميع الدعاء, يسِّر لنا حجَّنا, اللهم يسر لنا حجَّنا, وتقبله منه, واحفظنا أجمعين, من الأمراض والأسقام, ومن المفسدين في الأرض. اللهم احفظ لنا حجنا من الرفث والفسوق والفحش, واحفظ لنا حجنا من النظر إلى الحرام, وسماعِ الحرام. اللهم اجمع القلوبَ على هُداك, واجعل عملنا في رضاك, واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع هداك طالباً رضاك يا رب العالمين.

اللهم أصلح القلوبَ, واغفرِ الذنوبَ, واستر العيوبَ, وتجاوز عن الزلات والخطايا والمنكرات, اللهم أصلح أحوال المسلمين, واجمع كلمتهم على الحق المبين, وردَّ كيد الكافرين, وانصر المجاهدين في كل مكان, وأقرَّ أعيننا بتحرير المسجد الأقصى من أعدائك أشباه البشر, اللهم حرره على أيدي أوليائك المؤمنين, الذين يريدونَ شرْعَكَ, ويتبعون أَمْرَكَ.

عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاءِ ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم, واشكروه على نعمه الكثــيرة يزدكم, ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.