الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية العبادية @ 2ـ استقبال شهر رمضان المبارك


معلومات
تاريخ الإضافة: 8/9/1427
عدد القراء: 1371
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله عددَ ما صامَ صائمٌ وأفطر, الحمد لله عددَ ما صلى مصلٍ وكبَّر, الحمد لله الذي هدانا إلى مرضاته, وبيَّن لنا طريق جناته. أحمده وحده لا شريك له, وأشهد ألا إله إلا هو الإله الحق المبين, يهدي من يشاء إلى نهجه القويم, ويُضلُّ من يشاء عن طريقه المستقيم. وضَّح للعباد نهج هدايته, وبيَّن للناس مسالك عبادته, فهدى المؤمنين إلى سبيل الهدى, وساق الكافرين إلى طريق الردى. فمن هذا الذي يهدي بغير هداه, ومن هذا الذي يُرشد بغير إرشاده, ومن هذا الذي يُصلح بغير إصلاحه, فهو صاحب الفضل أوَّلِهِ وآخره, وصاحبُ النعمةِ ظاهِرِها وباطِنِها. شرع لأهل طاعته سبيل مرضاته, فهداهم إلى سبيل الرشاد, ووقاهم من طريق الغي والفساد.  فشرع لهم العبادات تُزكيهم وترفَعُهم, وشرع لهم المعاملات تحكُمُهُم وتُصلِحُهم, وشرع لهم الحدودَ تضبطُهُم وتُطهِّرُهم. فلو اجتمع الثقلان من الجن والإنس, على أن يضعوا لأنفسهم نهجاً يُصلحون به أحوالَهم, ويحكمون به خلافَهُم, ويُزكُّون به أنفسهم: لعَجَزُوا عن ذلك, وما وصلوا إلى شيء؛ فهل يقدر الفاني على ما يقدر عليه الباقي, وهل يستطيع العاجز ما يقدر عليه القادر, وهل يعلم الجاهل ما يعلمه علام الغيوب.  وها هي الأمم الإنسانية منذ فجر التاريخ الإنساني ما تزال تتخبط في دروب الغواية, ومسالك الضلالة, حين تتنكَّبُ هداية الرسل, وتُعرض عن منهج الهدى. لقد عَجَزَ الإنسان أن يضع لنفسه تشريعاً يلتزم به, أو طقوساً يتزكَّى بها, وإنما هي محاولاتٌ يائسةٌ بائسة, يتنقَّل بها الإنسان من ضلالة إلى ضلالة, ومن غواية إلى غواية. فها هو الإنسان في باب التشريعات وضع لنفسه من الأحكام والآصار, ما أثقلت كاهله, وأفسدتْ حاله. أما في باب العبادات فقد اخترع لنفسه من الطقوس والرموز العبادية, ما تسخرُ منه العقول السليمة, وتشمئز منه النفوسُ السوية. حتى إن العاقل ليعجب: كيف استحسن الإنسان هذه الأعمالَ الغريبة, وهذه المسالك العجيبة, حتى وقع فيما يُشبه الجنون من المعتقدات الباطلة, والطقوس الزائفة: يرجو من ورائها راحة نفسه, وزكاة روحه, فما يزدادُ بهذه الخزعبلاتِ الاعتقاديةِ والسلوكيةِ: إلا رجْساً إلى رجْسه, وضلالاً إلى ضلاله, فها هم أهل الرياضات الروحية, الذين اخترعوا لأنفسهم مناهجَ عبادية, ومناسك روحية: من صلوات مبتدعة, وصيامات مخترعة, ورقصات مبتذلة, وأذكار مستنكرة, فلم يزدادوا بهذه المناهج من الله تعالى إلا بعداً, ولم يرثوا من ورائِها إلا ظلمةً. فإنَّ طريق زكاة النفس وطهارتها من رجس الخطايا والآثام, وترقِّيها في سلم الفضائلِ والمعالي, لا يعلمهُ إلا خالقُ النفسِ ومُبدعها, فهو الذي سوَّاها, وألهمها فجورها وتقواها, وهو وحده سبحانه وتعالى الذي يعرف حقيقتها, وطبيعتها, وسُبلَ صلاحها, وطرقَ إصلاحها: ) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْـخَبِيرُ (.

أيها الإخوةُ الصائمون: إن من أعظم المنن الربانية, ومن أجلِّ المنح الإلهية: أن دلَّكم المولى عز وجل على سبل مرضاته, تفضلاً منه, وأرشدكم إلى طريق رَحَمَاتـه, وبين لكم منهج العبادة الذي ارتضاه لكم: ) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَـكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا(, ووضَّح لكم وسائلَ تزكيةِ النفس, وسبلَ تطهيرها, وطرقَ رُقيِّها في سلم الكمالات الإنسانية, ضمن منهجٍ قويمٍ معتدل, موافقٍ للفطرة التي فطر الله الناس عليهـا, فلا يخرجُ بهم عن حدِّ الاعتدال إلى الإفراط أو التفريـــط, ولا يبعدُ بهم عن موقـــــع التوسُّط إلى الغلو أو الجفــاء: ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّـتَــكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا(. والمتأمل في دين الإسلام يجد معنى التوسط واضحاً في جميع التشريعاتِ الربانية, وفي كلِّ جوانبِ المسالكِ العبادية, فقد قام كلُّ ذلك على منهج التيسير, ورفع الحرج, والمقاربة, بعيداً عن أساليب التزمُّت والشطط والغلو.  فانظروا أيها المسلمون, ولينظر  معكم كلُّ مُنصف من غير أهل هذا الدين: هل في شرْعة الإسلام ما يُذم, أو هل فيها ما يُكْره, أو هل فيها ما يُخالف الفطرة. وكيف يمكن أن يكون فيها نقصٌ, وهي تستمد كمالها من الكمال الإلهي, وكيف يكون فيها ظلمٌ, وهي تستمد عدلها من العدل الإلهي. إن كل جانب من جوانب هذا الدين, وكل جزئية من جزئياته, تحمل في ذاتها معنى الكمال المطلق, سواء ذلك فيما أوجبــــه الله تعالى على عباده, أو استحبـــــه لهم, أو أباحـه, أو كرهه, أو حرَّمـــه, ليس شيء من ذلك إلا وهـو يحمل طابع الكمال: ) صِبْغَةَ اللَّـهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ (.

أيها المسلمون: إن من أعظم العبادات التي شرعها الله تعالى لعباده المؤمنين: عبادةُ الصيام, فأوجبها على المسلم, البالغِ, العاقلِ, المقيمِ, القادر على الصيام.  وخصَّ هذه العبادةَ العظيمةَ بشهر رمضان, مرةً في كلِّ عام, يجدِّدُ من خلالها المؤمنُ روحَه, ويزكي بها نفسه, فيخرج بها من ذنوبه وآثامه, كيوم ولدته أمُّهُ, طاهراً مُطهَّراً, وعندها يكون مؤهَّلاً لدخول جنات النعيم, ومجاورة ربِّ العالمين.  ومع أن الفوز برضوانِ الله تعالى هو المقصودُ الأكبرُ من عبادة الصيام: فإنَّ لهذه العبادة آثارَها الإيجابيةَ على صحَّة الصائم: المادية والمعنوية, سواءٌ كان ذلك على بدنــه, أو روحه, أو عقله. فكلُّ جانبٍ من جوانب الإنسان ينالُ نصيبه الإيجابي من ممارسة الصيام, فقد أثبت الطبُّ الجسمي فوائد الصيام على صحة الأبدان, كما أثبت الطب النفسي فوائده على الصحة النفسية, إلى جانب ما أثبته أهلُ الخبرةِ من إيجابيات الصيام على سلامةِ العقول, وصفاءِ الأذهان,وقوة النظر العقلي. وقد أدرك بعض المتعبِّدةِ والمتفلسفة -من غير أهل هذا الدين, -فوائدَ الصيامِ الصحية, فاتخذوا الصيامَ نُسكاً لهم, فألزموا به أنفسَهم. فهم وإن أدركوا شيئاً من فوائد الصيام على الأبدان والعقول, فإنهم قطعاً لن يُدركوا شيئاً من ذلك على الأرواح والنفـوس, إذْ لابد لهذه من الإيمان الصحيح, والنيَّة الصالحة.

أيها الإخوة المؤمنون: أوَ يكونُ من أهل الضلال من يُلزم نفسه الصيامَ رجاء صحة الأبدان, وسلامة العقول, ثم يكونُ من بين أبناء المسلمين من يُفرِّط في الصيام, ولا يبالي بشهر رمضان؟ أوَ يكون هذا فيمن خصَّهمُ الله تعالى بجوار البيت, وحباهم بالنعم والخيرات؟ وهل يمكن أن يمضي هذا الشهر على شخصٍ يؤمنُ بالله واليوم الآخر دون أن يكونَ له فيه عملٌ صالح؟ وهل يمكن أن ينقضي هذا الشهرُ وأهلُ الكبائر على كبائرهم, لا يُحدثون لها توبة؟ وهل يصحُّ أن تُطوى أيامُ هذا الشهر دون أن يتعرَّض المؤمنُ لرحمةِ الله تعالى في أولِهِ, أو مغفرتِهِ في أوسطِهِ, أو العتق في آخره؟ فإن الشقيَّ من حُرم الخير في هذا الشهر, والخاسرَ من خرج من هذا الشهر بلا حسنات, والمغبونَ من سبقه الناسُ إلى الخيرات.

فاتقوا الله عباد الله, واغتنموا هذا الشهر, ولا يفوتنَّكم خيرٌ تفعلونه, من صدقةٍ, أو صلاةٍ, أو صلةٍ, أو جهادٍ, أو علمٍ . فإن عَجَزتم عن كل ذلك فلا أقلَّ من أن يُتْقِنَ أحدُكُم صيامَهُ, فلا يُفسدَهُ بمفطِّر, أو يَجْرَحَهُ بمعصية.

أقول هذا القول وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله الرحيمِ الرحمن, الذي بلَّغنا بفضله شهرَ رمضان, أحمدُهُ وحده لا شريك له, وأشهد ألا إله إلا الله, وأشهد أن سيِّدَنا محمداً عبده ورسوله, أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلِّه, فأدَّى الأمانة, وبلَّغ الرسالة, ونصح الأمة, فتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها إلا هالك ضال.

أما بعد فإن من القضايا المهمة التي لابد أن يعرفها الصائمون: أن للعبادات أثرَها على سلوك الإنسان وأخلاقه, فما ينعكسُ من تأثير إيجابي على العابدِ في سلوكِهِ وأخلاقِهِ هو ثمرةُ العبادة الصحيحة, وعلامةٌ من علامات قبولها عند الله تعالى.  فالصلاةُ إذا أدَّاها المصلي على الوجه الصحيح لابد أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر, والزكاة إذا أخرجها المسلمُ طيبةً بها نفسُهُ, لابد أن تُزَكِّيَ قلبه, وتُطهِّرَ ماله, وكذلك الحجُ إذا أدَّاه المؤمن على ما شرع الله تعالى, وسنَّهُ رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لابد أن ينعكسَ ذلك على نفسه بالتزكية, وعلى سلوكه بالاستقامة. وهذا أيضاً حاصلٌ في عبادة الصيام, فمن حفظَ صيامَهُ, وأدَّاه إيماناً واحتساباً فإنه لابد أن ينعكس عليه إشْراقاً لروحِهِ, وزكاةً لنفسه, ومن ثمَّ استقامة في سلوكه, وانضباطاً لانفعالاته. وفي هذا يقول المولى عز وجل عن الحكمة من تشريع الصيام: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(, فثمرة الصيام : التقوى, وهي مشاعرُ من الخشيةِ يجدها الصائِمُ في نفسِهِ: تنعكس على سلوكه استقامة وأدباً, وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن أثر الصيام على السلوك: « كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له, إلا الصوم, فإنه لي وأنا أجزي به, والصيام جُنَّة, فإذا كان يومُ صوم أحدكــــم فلا يرفــــث, ولا يصخب, فإن سابَّه أحد, أو قاتله, فليقل إني صائم إني صائم »، فانظروا أيها الإخوة كيف أدَّب الصيامُ صاحبَهُ, حتى إنه لا يقابل المسيء بالإساءة, ولا يواجه أحداً بمكروه, هذا هو أثر العبادة إذا كانت صحيحة مقبولة, فإن لها تأثيرها البالغ على قلب الإنسان وعلى سلوكه. 

اللهم وفقنا للصيام والقيام على الوجه الذي يُرضيك عنا يا رب العالمين.