الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الروحية @ 2ـ توبة المذنبين ويقظة الغافلين


معلومات
تاريخ الإضافة: 8/9/1427
عدد القراء: 2149
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

الخطبة الأولى:

الحمد لله يغفرُ للعصاةِ التائبين, ويرحمُ الجناةَ النادمين, ويعفو عن المخطئين الأوَّابين . كتبَ على نفسه الرحمة, وقضى على خلقِهِ بالحكمة. فالتائبُ إنما تابَ برحمته, والعاصي إنما أخطأَ بحكْمته. فضلُهُ قد غَمَرَ الصالحين, وعدلُهُ أفحم حجج المذنبين.

فالكلُّ بين فضله وعدلِهِ يعملون، وتحت سلطان قهره يتقلَّبون، المعصيةُ طبعٌ مُسْتحكِمٌ  في العباد، والتوبةُ سبيل أهل الرشاد. ما من معصيةٍ إلا ولها توبة، وما من خطيئةٍ إلا ومنها أوبة. فالسعيد من تذكَّر ذنوبَهُ فتاب، وعلم بتقصيره فأناب، والشقيُّ من غرَّهُ طول ُ الأمل، فأنساه قرْبَ الأجل .  حتى إذا داهمتهُ الخُطوب، وحالت بينهُ وبين التوبة الذنوب: أتتْه رُسلُ ربه على غير هدى، وقبضت رُوحه على غير تُقى.  فلا خيراً أوصى، ولا برَّاً أهدى، قد شغلته الدنيا بزخْرُفها، وألْهته الحياةُ بزينتها، حتى أصبح في عِداد المفتونين، ودخل في فئات المغرورين، فلا نعمةً شَكَرَها، ولا طاعــة ادَّخرَها، إذا جاع لا يصـبرُ، وإذا شبعَ لا يشكرُ، أحلامُهُ كأحلام الطائر، وآماله في حجم السُّفن المواخر. إذا سُئلَ الحقَ نبذه، وإذا دُعيَ إلى الباطل أخذه. أملهُ من الدنيا جمعها، وهمُّهُ في الحياة رزْقها.  رجاؤهُ فيما عند الله صغير، وأملُهُ فيما عند الناس كبير. إيمانهُ بالله ضعيف، وفهمُهُ للدين سخيف، كأنَّه أوهام الدجالين، ونُكَت المهرِّجين. يستحقرُ في تعامله الصالحين، ويسْتعظمُ في نفسه الفاسقين. أهل الحقوق عنده المطالبون الأقوياء، وأهل المظالم عندهُ المساكينُ الضعفاء. لا يستخرجُ أحد ٌ الحق منه إلا بسيف السلطان، ولا يُعرف له بين الناس عهدٌ ولا أمان. مراوغة الخصوم سبيلهُ، ومداهنةُ السلاطين طريقُهُ. قد حيَّر الفطناء مَكْرُهُ، وأعْجَزَ الأذكياءَ كيدُهُ. لا رهبةً تَثنيه عن أهوائه، ولا رغبةً تمنعُهُ عن شهواته. ما من باب من الأبـواب الحرام إلا ولَجَـهُ، وما من نهج خبيث إلا سَلَكَهُ. لا يعرف لله حراماً يجتنبُـهُ، ولا يعرف له حدَّاً يحترمُهُ.  قد رَكِبَ الكبائرَ كلَّها، واقتحمَ العظائمَ جُلَّها. حتى إذا لم تعدْ له مفسدةٌ يقترفها، ولم تبقَ له حرمةٌ ينْتَهكها، قد أتى على كل قبيحة ورذيلة، ووقع في كلِّ حقيرة وجليلة، حين لم يعدْ له من الحسنات واحدة، ولم يبقَ له من الخيرات شاردة: فإذا بالعنايةِ الربانية، والرحمةِ الإلهية: تتدارك هذا المسْرفَ على نفسه، المفرِّط في أمره، تتدارَكُهُ عند حافةِ الهاوية، بقرب النار الحامية، وقد أثْخنتهُ الذنوب بشديد حملها، وأرهقتْهُ المعاصي بقبيح شُؤمها.  قد ضاقت عليه الأرض على سَعتها، وصغُرت في عينيه الدنيا على رحْبتها. لم يعد شيء في الحياة يُريح نفسه، ولم يعدْ فيها ما يُطمْئِنُ قلبه. وكأنَّ داعياً  من داخله، وهاتفاً من باطنه: يناديه باليقظة من الغفلة، ويُنَبـِّـهُهُ إلى الصحوة من الرقْدة، قد طال بك ليل الغافلين، وتمادى بك نهارُ العاطلين، فلا المالُ أراحَ نفسَك، ولا اللهـوُ شرح صـــدرك، ولا الطغيانُ شفى قلبَكَ، فأين السعادةُ التي ترجوها، وأين الراحة التي تحدُوها. إنها أوهام البطَّالين، وآمال الفارغين التي يقْذِفها الشيطان في صدور أوليائه، حتى ملأ بها قلوبَهم، وأغلقَ بها عقُولَهم، فإذا أرادَ اللهُ تعالى بعبدٍ خيراً: أيقظه من غفلته، ونبَّهه من هفوته، فإذا بنور الإيمان يخترقُ ركامَ الرانِ على قلبه، وإذا ببصيص الضياء يشعُّ في صدره، وإذا بالروح الجديد يسري في جسده. فإذا به إنسانٌ غير ذلك الإنسان، وشخص غيرُ ذلكَ الشخص .  قد صاغتْه التوبةُ النصوحُ صياغة جديدة، وصنعته صناعةً فريدة، حتى عاد من بعد الكفران إلى الإيمان، ومن بعد الطـغيان إلى الإذْعــــان. عاد إلى الله تعالى كأنَّه ما عصــى، وتاب إلى ربه وكأنَّه ما جنى . انْتقل من طريق الغواية إلى نور الهداية، ومن سبيل الردى إلى منهج الهدى. فقامت الطاعة في حياته مقام المعصية، وحلَّت الفضيلة في سلوكه مقام الرذيلة. أقبل على طاعة ربِّه يرجو رضاه، وأحْجَم عن المعصية يطلب هداه. حُزْنُهُ على الماضي لا ينتهي، ونفسُهُ من البكاء لا ترتوي. قد طار قلبُهُ من الخوف الشديد، وتفطَّر كبدُهُ من هول يوم الوعيد. مشفقٌ من توبته أن لا تُقْبل، وخائِفٌ  من حوبته أن لا تُغْسل .  لا يـــدري أين مصـيره، أيكـون مع التائبين المقبولين، أم يكون مع المذْنبين المطرودين. همُّهُ كلُّه قبول توبته، ورجاؤُهُ كلُّهُ غَسْلُ حوْبته.  لو كان رضى ربِّه بالمال لاشتراه، ولو كان رضاه بالروح لفداه. يُحب ربه ويخافُهُ، ويرجوه ويهابه. قد أخذ من كل طاعة بنصيب، فلم يشْغَلْه مالٌ ولا قريب.  قد يئس الشيطان من غوايته، واغتاظ من هدايته، فبعد أن كان ولياً من أوليائه، أصبح بفضل الله تعالى عدواً من أعدائه، قد أنعم الله تعالى عليه بالهداية، بعد أن كان من أهل الغواية، فانتقل برحمة الله تعالى من رقْدَة الغافلين إلى يقظة التائبين، ومن فجور العصاة المذنبين، إلى تقوى الفضلاء الصالحين، فإذا بنور الإيمان يشــعُّ من وجهِهِ، وإذا بعلامــاتِ التقــوى تزين نهجـه، كأنه ما عصى ولا أسرف، وكأنـه ما أخطأ ولا أرْجف. فأين الكبائرُ والموبقات، وأين المعاصي والمنكرات: قد أبدلها الله تعالى للتائب حسنات، وعوَّضه بتوبته جزيلَ المثوبات، فلم تضرَّهُ المعاصي المهلكات، لما تاب من الأفعال الساقطات، وأحْجم عن سلوك الموبقات، لقد بلغَ بتوبتـه أعلى مراتبِ الســعادات، ونالَ بأوْبته أفضلَ المكْرُمات. فلا خيرٌ فاتَهُ، ولا شرٌ ناله. فما أن قال بصـدقٍ: يا ربِّ قد تبت, إلا وأجابه الجبار: يا عبدي قد غفرت, فأيُّ سعادة قد نالها, وأيُّ كرامة قد طالها.  إنها فرحةُ التائبين, ويقظة الغافلين, حين تُدْركُهُم عناية أرحم الراحمين, وتشْمَلُهُم مغفرة أكرم الأكرمين. إنها التوبة النصوح أيها الإخوة إذا خرجت من قلب صادقٍ قد لذعتْه المعصية, فإنها تفعل فعلها العجيب في شخصية التائب, فتُغيِّرُ من حاله تغييراً كاملاً, حتى تفصِـلَهُ عن ماضــيه الأســود, فلا يبقى لهذا الماضــي تأثيرٌ في حاضــر التائبِ أو مستقبلهِ. وتدفعُهُ بقوةِ الإيمان, وأمَلِ الغفران: نحو الاجتهادِ في مراتبِ الكمالات, والمسابقة إلى أعلى الدرجات, يطلبُ من ربه الهدى, ويأملُ من خالقه الرضى. فهو بعد التوبة الصادقة عاد نقياً كمنْ لا ذنب له, فلا يجوزُ لأحد أن يُعيِّرهُ بماضيه, أو يشينُهُ بسالف معاصيه, وإنما عليه أن يتقبَّله قبولَ المحبين, وأن يكتنفَهُ اكتنافَ المربين, فلا يصحُ بعد التوبة زجرٌ أو نهْر, وإنما هو الترغيب والتبشير .  ومما يُروى في هذا: أن عبد الله بنَ مسعود رضي الله عنه دخل في العراق على قومٍ لاهين, عندهم خمرٌ, ومن بينهم غلامٌ يضربُ بعودٍ, فكسر العودَ وإناءَ الخمرِ, وأقبلَ على القوم فوَعَظَهم وذكَّرهم, ثم خرج من عندهم, وقد وقعتْ موعظتهُ في نفس الغلام صاحب العودِ موْقِعهـا, فما اســتطاع حتى خرج يســـعى خلفَ عبد الله بن مسعــود رضي الله عنه, فلما لقِيَهُ تعلَّق بثيابه وهو يبكي, فما كان من عبد الله رضي الله عنه إلا أن احتضنه, وأخذ يبكي معه, ويقول: « مرحباً بمن أحبَّهُ الله »، ثم اصْطَحبَهُ إلى بيته, وكان هذا الغلامُ بعد ذلك من كبار العلماء.

أيها الإخوة الكرام: إن الإسلام في منهجه التربوي لا يُنكرُ مبدأ الوقوع في الخطأ, وإنما يستنكرُ التهاونَ والإصرار. فالتهاونُ: استخفافٌ بحدود الله تعالى, والعبدُ كلَّما استعظمَ ذنْبهَ في نفسه: صغُرَ ذلكَ الذنبُ عند الله, وكلَّما استصغرَ الذنب في نفسه : كبُر عند الله, فلا صغيرةَ مع إصرار, ولا كبيرةَ مع استغفار. والعبد إذا تهاون بالمعاصي, واستعذبَ حلاوتَها, ومالَ إليها: انشرح لها صدرُهُ, وارتاحتْ لها نفسُهُ. فبقدر ما ينشرح صدرُهُ للمعصية, وبقدر ما ترتاحُ نفسُهُ لها: ينعكسُ ذلك سواداً في قلبه, وظلمةً في روحه. حتى إن بعضهم من شدةِ امتزاجه بالمعصية, وتعلُّقه بها: يفرحُ إذا مُدحَ بها, ويستبشرُ إذا أُثني عليه بها, حتى إنه ليتمنَّى أن يموت عليها, ويكرهُ أن يتوبَ منها, وبذلكَ أيها الإخوةُ تكبرُ الذنوبُ وتتضخم, حتى تكون الصغيرة كبيرة, والحقيرةُ عظيمةً. نعوذ بالله تعالى من ذلك, ونتوب إليه, ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

الخطبة الثانية :

الحمدُ لله حمدَ الشاكرين, ونستغفرُ الله استغفارَ المذنبين, ونتوبُ إليه توبة الصادقين. والصلاةُ والسلامُ على إمام المتقين, وخير التائبين, وقدوة السالكين, سيِّدِنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعدُ فيقولُ الله تبارك وتعالى: ) فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّـهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (, ويقول أيضاً سبحانه وتعالى: ) وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(، ويقول أيضاً: ) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى(،  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله عز وجل يبسط يدَهُ بالليل ليتوب مسيءُ النهار, ويبسطُ يدَهُ بالنهار ليتوبَ مُسيءُ الليل حتى تطلُعَ الشمسُ من مغربها», ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: « إن من قِبَلِ المغربِ لباباً مسيرةُ عرضهِ أربعون عاماً أو سبعونَ سنةً فتحهُ الله عز وجلَّ للتوبة, يومَ خلق السماوات والأرض, فلا يُغلقُهُ حتى تطلُعَ الشمسُ منه », ويقول أيضاً عليه الصلاة والســلام: « لو أخطأْتم حتى تبلُغَ السماءَ, ثم تبْتم : لتابَ اللهُ عليكم ».

أيها الإخوة الكرام: منْ هذا الذي يحولُ بين المذنب وبين ربِّه عز وجل, فإنه ليس في الإسلام وسائطُ بين الخالق والمخلوق, وإنما هو الشيطانُ يُدْخلُ اليأسَ على المذنبِ حتى يُقنِّطَهُ من رحمة ربه. ولعل في خبر أبي طويل رضي الله عنه ما يخفِّفُ عن التائبين, فقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « أرأيت من عملَ الذنوبَ كلَّها, ولم يترك منها شيئاً, وهو في ذلك لم يتركْ حاجَّةً ولا دَاجَّةً إلا أتاها, فهل لذلك من توبة؟ ، قال: فهل أسلمت, قال: أمَّا أنا فأشهد أن لا إله إلا الله, وأنك رسول الله. قال: تفعلُ الخيراتِ, وتتركُ السيئات, فيجعَلُهُنَّ الله لكَ خيـــــراتٍ كُلَّهُنَّ, قال: وغـَـدَراتي وفَجَراتي ؟ قال: نعم, قال: الله أكــبر , فما زال يكبِّرُ حتى توارى ».