الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الإيمانية @ 7ـ لحظة الموت بين الخوف والرجاء


معلومات
تاريخ الإضافة: 8/9/1427
عدد القراء: 4426
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله الماضي أمرُهُ, النافذِ حكمُهُ, الباسطِ سلطانُهُ, قضى بالفناء على الخلائق أجمعين, واختص بالبقاء دون العالمين. ليس من حيٍّ إلا والموت أمامَهُ, فمُسْتريحٌ أومُسْتَراحٌ منه. فالحمدُ لله بالموت رحمةً للمؤمنين, ونجاة للخائفين, وفوزاً للصالحين. والحمد لله بالموت قصَمَ به رقاب الجبابرة, وكسر به ظهور الأكاسرة, وقصَّر به آمال القياصرة الذين لم تزل قلوبهم عن ذكر الموت نافرة, حتى جاءهم الوعد الحق فأرْدَاهم في الحافرة, فنُقلوا من القصور إلى القبور, ومن أنوار المهود إلى ظلمة اللحود, ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل, ومن ملاعبة الجواري والغِلمان, إلى مُقاساة الهوام والديدان, ومن التَّنَعُّم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب، ومن أنس العشرة بالأحباب والأصحاب, إلى وحشة الوحدة بالرزايا والصعاب. فسبحان من انفرد بالقهر والاستيلاء, واستأثر بالملك والبقاء, وأذلَّ أصناف الخلق بما كتب عليهم من الفناء.

أما بعد فاتقوا الله عباد الله وأعدُّوا ليوم المصرع, أعدِّوا ليوم تخرُّ فيه القوى, وتخور فيه العزائم, وتنقطع فيه الأسباب, أعدوا ليوم يعجز فيه الطبيب, ويحار فيه الحبيب, فلا الدواء ينفع, ولا الدعاء يُسمع. أعدوا ليوم يطيش فيه العقل, وينعقد فيه اللسان, ويضطرب فيه الجنان, وتُشلُّ معه الأبدان، فلا منجى من الله إلا إليه.

أيها الإخوة: إنَّ الموت خطرٌ عظيم, وهولٌ جسيم, وفتنة كبرى, حار في حقيقته العقلاء, وعَجَزَ عن كنهه الفطناء, لا يعرف حقيقته إلا من ذاقه, ومن ذاقه لا يعود إلى الدنيا أبداً. ولو قُدِّر أن يعود إليها: فأخبر بما رأى, وحدَّث بما عاين: لأفسد على أهل الدنيا معايشهم, وعطل عليهم مكاسبهم, فلا ينتفعوا بعيش,
ولا يهنأوا بنوم. وهذا من فضل الله تعالى وحكمته أن جعل الموت سراً من أسراره, فلا يعرف حقيقته ووقته إلا الله, فيتحقق من ذلك مصلحة الدنيا وعمارتها من جهة, ويتحقق من جهة أخرى امتحان العباد وابتلاؤهم بالإيمان والعمل الصالح, كما قال المولى عز وجل: ) تَبَارَكَ  الَّذِي بِيَدِهِ الْـمُـلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَـيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَـــقَ الْـمَوْتَ وَالْـحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (.

أيها المسلمون : لقد قصَّ الله تعالى علينا في كتابه خبرَ الموت, وبيَّن لنا مُباغتَتَه للعبد, ووضَّح لنا موقف الإنسان من حضوره. وفي هذه الآيات العبرة كلُّ العبرة ومن ذلك قوله تعالى:  )كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الـْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْـجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ(. ويقول أيضاً: ) وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْـمَوْتِ وَالْمـَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْـهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّـهِ غَيْرَ الْـحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ(.  ويقول أيضاً: ) حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْـمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(  وقال أيضاً: ) فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْـحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(.

إن هذه الساعات العصيبة, والمواقف الشديدة لهول المطلع: حيَّرت العقلاء, حتى ما عاد للبيب موضعُ فرحٍ إلا وخالطه الحزن, ولا مقامُ بهجةٍ إلا وكدَّره هم, حتى أصبح ذكرُ الموت يهدم كلَّ لذة, ويكدِّر كلَّ صفوة, وينغِّص كل بهجة.  فكم من فرحة قطعها الموت, وكم من لذة منعها الموت, وكم من عظيم حقَّره الموت, حتى ما عاد في الدنيا شيءٌ من مباهجها إلا أفسده ذكرُ الموت, وإنما يتنعَّمُ المتنعمون, ويتفكَّه المتفكِّهون, ويبتهج المبتهجون حين ينسَون ذكر الموت, فلا يكون حياً في قلوبهم, ولا مُسْتحضراً في عقولهم, ولا مذْكوراً في مجالسهم, وعندها فقط يتنعَّمون ويأنسون.

أيها الإخوة: إنَّ نزولَ الموتِ بالعبدِ شديدٌ, وألمٌ عظيمٌ فهذا سيِّدُ الخلقِ, وحبيبُ الحق يقول لما نزل به كربُ الموت: « لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ». ولئن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمِنَ من هول المطلع, وما بعد الموت, إذ لا كرب عليه بعد ذلك اليوم: فأنَّى لغيره أن يأمن. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طُعن وأيقن بالموت, وكان رأسُهُ في حجْر ولده, قال له: « ضع خدي على الأرض, فقال ولده عبد الله وما كان عليك أن كان في حجري أو على الأرض ؟ فقال: ضعه على الأرض لا أم لك. فوضعه, فأخذ يقول: ويلي وويلَ أمي إن لم يرحمني ربي ». ولما دخل عليه الناس يبشِّرونه بالجنة قال: « والله لو كان ليَ الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن علم ما الخبر » , وقال مرة: « والله لو أنَّ لي ما طلعت عليه الشمسُ أو غربت لافتديت به من هول المطلع ». ولما حضرت الوفاة معــــــاذ بن جبــــــل رضي الله عنه اشتدَّ عليه الكـرب, فكان كلَّمَا أفاق قال: « اُخنقني خنقك فوعزَّتِكَ إنك تعلم أني أحبك, ثم قال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار ».  ولما حضرت الوفاة أبا هريرة رضي الله عنه بكى, فقيل ما يبكيك: فقال: »ما أبكي على دنياكم هذه, ولكن على بعد سفري, وقلَّة زادي, فإني أمسيت في صعود, ومهبطه على جنة أو نار, فلا أدري إلى أيهما يُؤخذ بي ». ولما حضرت الوفاة الحسن بن علي رضي الله عنهما أخذ يبكي, ويشتدُّ بكاؤه, فقيل وما يبكيك وأنت سيد شباب الجنة, فقال: »إني أقدُم على أمرٍ عظيمٍ وهولٍ لم أقدُم على مثلهِ قط«. ولما دخل بعض الناس على معاوية رضي الله عنه وهو يجود بنفسه في سياق الموت ويبكي, قيل : ما يُبكيك يا أمير المؤمنين, فقال: « ما أبكي على الموت أن حلَّ بي, ولا على دنيا أُخلِّفها, ولكن هما قبضتان قبضةٌ في الجنة, وقبضة في النار, فلا أدري في أيِّ القبضتين أنا ». وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما حضــرت ساعةُ موتها قالت: « ودِدْتُ أني كنت نسياً منسياً », وقالت مرة: « ياليتني كنت حيضةً ملقاة », وقالت مرة: « ياليتني كنت ورقةً من هذه الشجرة ». وهذا التابعي الجليل الأسودُ بن يزيد النخعي لما حضرته الوفاة جَزِعَ وبكى, فقيل : لِمَ هذا, فقال: « مالي لا أجزعُ, والله لو أُتيتُ بالمغفرة من الله لأهمني الحياءُ منه مما قد صنعت ، إن الرجل ليكونُ بينه وبين آخرَ الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحيياً منه ». ولما دخل بعضهم على محمد بن واسع فقالوا : كيف تجــدك ؟ قال: « هو ذا أخوكـم, هو ذا يُذهـب به إلى النـار أو يعفوَ الله عنه », فلما أثنوا عليه ليخففوا عنه قال لهم: « وما يُغني عني ما يقول الناسُ إذا أُخذ بيديَّ ورجليَّ فألقيت في النار » . ولما حضرت الوفاة إبراهيم النخعي أخذ يبكي ويجزعُ, فقيل: ما يُبكيك يا أبا عمران, قال: « انتظـر ملك الموت, لا أدري بالجنة يبشرني أم بالنار ».  وهذا ربعي بن حِراش رحمه الله أخذ عهـداً على نفسه أن لا يضحك أبداً حتى يرى مقعده من الجنة أو النار, ولما مات لم يزل مبْتسماً والناس يُغسِّلُونه حتى دُفن رحمه الله.

أيها الإخوة : لقد شغل هولُ المطلعِ هؤلاءِ الصالحين, حتى ما عاد أحدهم يُعوِّلُ على عمله مهما كان صالحاً, حتى إن بعضهم ليظنُّ أن النار ما خُلقت إلا له, من شدة خوفه وخشيته من سوء الخاتمة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ) أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّـهِ لاَخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ   يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُـونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْـحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِـرَةِ لاَ تَبْدِيـلَ لِكَلِمَاتِ اللَّـهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(. 

أقـــــول ما سمعتم وأســـتغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية :

الحمدُ لله المتفرد بالعزة والكبرياء, المختص بالكمال والجلال, أحمده وأستعينه وأستغفره, وأعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, وأسأله الهدى للطريق القويم, والتوفيق للصراط المستقيم.

أما بعد فيا أيها الإخوة: لئن كان خوف الصالحين من سلف هذه الأمة قد بلغَ هذا المبلغ العظيم فإن رجاءَهم في الله تعالى, وأمَلَهُم فيه أعظم من ذلك وأجل, وظنُّهم بالله حَسَن, إذ لا يصح من المؤمن أن يموت وهو يُسيء الظن بالله, وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسن الظن بالله تعالى«, يعني يعتقد رحمته ويرجوها, فإن القنوط لا يكون إلا من الكفار. فهذا عمرو بن العاص رضي الله عنه رغم جزعه الشديد عند الموت قال في آخر كلامه: « اللهم أمرتنا بأشياء فتركناها, ونهيتنا عن أشياء فانتهكناها, ولكن أشهد أنه لا إله إلا الله», فمازال يكررها ويقبض يده عليها حتى مات رضي الله عنه.  وهذا حكيم بن حزام رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال: « لا إله إلا الله, قد كنت أخشاك, وأنا اليوم أرجوك ». وهذا محمد بن واسع رغم شدة خوفه من الموت قال في آخر كلامه: « مرحباً بملائكة ربي، ولا حول ولا قوة إلا بالله ».  وكذلك محمد بن المنكدر الذي كان لا يعرف من الدنيا إلا البكاء من شدة خشيته من الله تعالى, فلما حضره الموت كان في شدة الخوف من سوء الخاتمة, فمازال يتجلَّى ويصفو حتى أشرق وجهُهُ برحمة الله, وأخذ يقول لبعض من حضره: « لو ترى
ما أنا فيه لقرَّت عينُك »، يعني مما يشاهد من رحمة الله تعالى.

أيها الإخوة المؤمنون : إن مما يهوِّن على المؤمن كرب الموت وسكراته:
ما يأتيه عند النزع من البشرى برضوان الله ورحمته, فيُخفِّفُ ذلك عليه ما هو فيه من شدة وكرب, وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه, قلت: إنا لنكره الموت, قال: ليس ذلك, ولكنَّ المؤمن: إذا حضره الموتُ بُشِّر برضوان الله وكرامته, فليس شيءٌ أحب إليه مما أمامه, فأحب لقاء الله, فأحب الله لقاءه, وإن الكافر إذا حُضر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته, فليس شيءٌ أكره إليه مما أمامه: كره لقاء الله، وكره الله لقاءه ».

أيها الناس : هذه هي الحقيقةُ الكبرى, وهذه هي نهاية المطاف, فأين المهربُ وأين النجاة. اللهم لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك, اللهم هوِّن علينا سكرات الموت, وخفف عنا شدته, وبشرنا عنده برحمتك ورضوانك, فأنت أرحم الراحمين, وأجودُ الأجودين, وأنت المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.