الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الإيمانية @ 6ـ أهمية التقوى لمفاسد آخر الزمان


معلومات
تاريخ الإضافة: 8/9/1427
عدد القراء: 1541
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

الخطبة الأولى :

إنَّ الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, خير نبي أرسله بالهدى والنور, فبلغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة, حتى تركها على المحجَّةِ البيضاء ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها إلا هالك ضال. أما بعد فإن خير الكلام كلام الله تعالى, وخير الهدي, هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكلَّ محدثة بدعة, وكلَّ بدعة ضلالة, وكلَّ ضلالة في النار.

أيها المسلمون: أوصيكم وإيَّاي بتقوى الله تعالى, فهي رأس الأمر, وأساسه وبناؤه, بها يُستجلبُ الخير, وبها يُدفع الشر. من حاز التقوى فقد حاز الخير كلَّه, ومن فقدها فقد خسر الخير كلَّه.

قال الله تعالى: ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (, وقال أيضاً: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (, وقال أيضاً:   )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن التقوى ناصحاً أصحابه: « أُوصيك بتقوى الله, فإنه رأس كلِّ شيء », ويقول: « اتقوا النار ولو بشق تمرة», ويقول أيضاً: «اتق اللهَ حيثما كنت, وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحها, وخالقِ الناس بخلق حسن », ويقول أيضاً عليه الصلاة والسـلام: «إن الله يحب العبد التقــيَّ الغنيَّ الخفـي». ويقول أيضاً: « لا يبلغ العبدُ أن يكون من المتقين حتى يدعَ ما لا بأس به حذراً مما به البــأس ». وفي هذا المعنى يقول أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: « تمامُ التقوى أن يتقيَ اللهَ العبدُ حتى يتقيَهُ من مثقال ذرة، وحتى يتركَ بعضَ ما يــــرى أنه حلالٌ خشية أن يكون حراماً », ويقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: « التقـي ملجمٌ لا يفعل كلَّ ما يُريد».

أيها الإخوة: إن مقام التقوى, مقام مطلوب من كل مسلم, لا يختص بأناس دون آخرين, كما أنه مسلكٌ عامٌ لا يخصُ جانباً دون آخر, كما أنه صفةٌ للمسلم في كل جيل, لا يختص بزمانٍ دون آخر. ولئن كان الجيلُ الأولُ في قرون الإسلام المفضلة قد تمثَّل مقام التقوى كأحسن ما يكون؛ فإن الأجيال المتأخرة من المسلمين أحوجُ ما تكونُ إلى هذا المقام, وأفقرُ ما تكونُ إليه؛ وذلك لأن معانيَ التقوى ومقاماتها في قلب المؤمن وسلوكه: تضيع حقيقتها في زمن الغربة, ويضعفُ أثرها في آخر الزمان, حتى غدتِ التقوى في هذا الزمان مسْلكاً مهجوراً, وعملاً منبوذاً, لا يتعامل بها إلا نوادرُ الناس, ولا يحرص عليها إلا أفرادٌ من المجتمع, حتى قال القائل: ليس هذا زمنُ التقوى, وقال آخرُ : ليس هذا زمنُ الورع, وكأن فرضَ التقوى ليس لازماً لأهل هذا العصر, وإنما يكفيهم من الإسلام اسمه, ويُغنيهم من الإيمان رسمه.

أيها الإخوة المسلمون : إنَّ ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبدُّل أحوال الناس في آخر الزمان، وظهور الفتن, والأمور العظيمة, التي تنتزع الإيمان من أصوله, وتقتلع الأخلاق من جذورها, وتجعلُ الحليمَ حيرانَ, والشجاع خوَّاراً, هذه الأخبارُ التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن أشراط الساعة الصغرى: قد وقع غالبها في حياة المسلمين اليوم بصورة خاصة, وفي حياة الشعوب الأخرى بصورة عامة, فهذا الإيمانُ, ركنُ الدين, وأساسهُ الأول: قد دخله الخور, وطال عليه الأمد, حتى قست القلوب, وقلَّ الخشوع, وظهرتِ الردةُ, والاستهزاءُ بالدين, وانتشرتِ البدعُ والخرافات, وعُظِّمت القبور والمزارات, وتحاكم الناس إلى غير الشريعة, واستسلموا لحكم الطاغوت, ولم يعُد الحبُّ للهِ أو البغضُ فيه, وإنما هو الهوى يُشرِّق بالناس ويُغرِّب بهم. وهذا الجانب الأخلاقي, الذي جاء الإسلام ليُتمِّمَهُ في هذه الأمة: قد دخله التغيير والتبديل, حتى فشا الخداع والكذب, والغش والاحتكار, وشُرب الخمر, وعُزِفَ بالآلات, وانتشر الزنا, وتيسَّرتْ سُبُلُهُ, وقلَّ الحلال, وتعسَّرت طُرُقُهُ. وظهر الشذوذ, حتى اكتفى الرجال بالرجال, والنساء بالنساء.

وهذا الجانب الاجتماعي, الذي جعله الإسلام كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً, قد دخله الخور, فظهر العقوق, وتقطعت الأرحام, وساء الجوار, وتجرَّأ الصغار, وذلَّ الكبار, وتهاجر الناسُ لأتفه الأسباب, وتشاكوْا في أقلِّ الملمات, وفشت أمراض القلوب من الغل والحسد والبغضاء, وعمَّت أمراض الألسنة من الغيبة والنميمة والزور. وأمَّا الجانب الاقتصادي الذي تقوم عليه مصالح الناس ومعاشُهم, فقد دخله الخلل حين اختلط مفهوم التنمية بالربا, حتى عمَّ الدنيا بمفاسده, فدخل مع الناس في أرزاقهم, فذهبت البركة, وحلَّت النقمة, وظهر الشح والبخل, وتقاربت الأسواق حتى قلَّت أرباحها, وانقطع من السماء قطْرُها, ومُنع من الأرض نبْتها, فظهرت المجاعات, وقلَّت البركات, حتى ما يجد بعضهم الماء الذي يشربونه, أو الطعام الذي يأكلونه. وبخل الأغنياء بأموالهم فلا يبذلون فرضاً ولا نفلاً, وعَجَزَ كثير من الشباب عن العمل, فلا يجدون وظيفة ولا مهنة.

وأما الجانب الصحِّي الذي جاء الإسلام للحفاظ عليه, حتى جعل حفظ النفس مقصداً من مقاصده, فهذه الأمراض بأنواعها: النفسية, والعقلية, والجسمية. أخذت تفتك بكثير من الناس, حتى ما تكاد تجد أسرةً إلا وقد دخلها شيء من هذه الأمراض الغريبة, التي لم تكن معروفة في السابق, فمنهم من تأخذه في عقله فتصرعه كالمجنون, ومنهم من تأخذه في نفسه فتراه كالمعتوه, ومنهم من تأخذه في بدنه, فلا تدعه حتى يموت.

وأما الجانب السياسي, الذي جاء الإسلامُ بإحكامِهِ, وضبطِ أركانِهِ, ضمن منظومته الشرعية, المتضمنة لوحدة الصف, واجتماع الشمل, وقوة الشوكة, وحماية الثغور, ونشر الدين والعدل. فإذا بهذا الجانب ينتقضُ على المسلمينَ من أساسِهِ, فتتغير معالمه, وتتبدل مقاصده, حتى تكون السياسة ما شرَّع الكفار, والعدل ما نصَّت عليه الأمم المتحدة, والحق ما اتفقت عليه الشعوب, في ظل سيطرة الأقوياء, فيفرضون على الضعفاء قوانينهم, ويُلزمون المستضعفين قراراتهم, حتى لم يعد للشعوب الإسلامية خصوصيتها الاعتقادية والأخلاقية والاجتماعية, إلى أن وصل بهم الحالُ أن يفرِضُوا من خلال مؤتمرات الأسرةِ والمرأةِ على شعوب العالم نظاماً جديداً للحياة الاجتماعية يوافق أمراض المجتمعات الغربية وفسادها, ويهدم نظام الأسرة ووحدتها, ضمن قوانين وبنودٍ يخجل العاقل من ذكرها.  ومن المعلوم أنَّ قانونَ الأحوالِ الشخصيةِ الإسلامي هو آخر معقلٍ للإسلام في ديار المسلمين, بعد أن لم يعد للشريعة مكانٌ تُمارسُ فيه إلا فيما يتعلق بأحوال الناس الشخصية, وهاهو النظام العالمي الجديد يضرب بمعوله الهدَّام آخر صرحٍ لهذا الدين, وآخر معقلٍ من معاقله.

أيها الإخوة الكرام: إنَّ هذا الفساد العام, الذي تحياهُ أمة الإسلام, وتعاني مرارته وآلامه, وتقاسي جحيمه وأحزانه, أليس كلُّ هذا مردُّهُ إلى ضعف التقوى, واضمحلال حقيقتها, وذهاب أثرها, فكيف يقول القائل لسنا في زمن التقوى, بل نحن اليوم أشدُّ ما نكون حاجة إلى التقوى, نستجلب بها مدد الله تعالى, ونستمطر بها نعمته, وندفع بها نقمته. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: )ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّـهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّـهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(. بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية :

الحمدُ لله مُعيد النعم, ومُبيدِ النقم, يُعزُّ من يشاءُ بطاعته, ويُذل من يشاء بمعصيته. أنزل كتابه بالحق, وأرسل رسوله بالهدى, فالحق فيما أنزل, والهُدى في منْ أرسل, فمن رام الخير في غير كتاب الله هلك, ومن طلب الهدى في غير سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ضلَّ. فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنكم في آخر الزمان, خُلقْتُم في أعقاب الدهر, قد فاتتكم أشراط الساعة الصغرى, فعمَّت ديارَكم, وإنما تنتظرون العلامــــات الكبرى، والطامـــات العظمى, التي لا ينجو منها إلا معصوم, ولا يسلم منها إلا محظوظ, وليس وراء ذلك إلا الساعة, والساعة أدهى وأمر, فإنها لا تقوم إلا على شرار الناس, فكونوا من خيارهم تنجوْا وتَسْلموا.

أيها الإخوة المسلمون: إذا كان هذا واقعَ الأمم اليوم, من حيث استحكامُ الضلالُ, وانتشارُ الغفلة, وعمومُ الفساد, فإن الله تعالى لم يكن ليترك أمة الإسلام لتضلَّ في هذه السُّبل المتفرقة, والطرق المتعرِّجة, فقد جعل لها المخرج في هدي كتابه, وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, وفي هذا يقول سبحانه وتعالى:  )يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّـهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّـَهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (, ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « أوصيكم بتقوى الله, والسمع والطاعة, وإن عبداً حبشياً, فإنَّهُ من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً, فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين, تمسَّكوا بها, وعَضُّوا عليها بالنواجذ, وإيَّاكُم ومُحدثاتِ الأمور, فإنَّ كلَّ مُحدثة بدعة, وكلَّ بدعة ضلالة ».

أيها الإخوة: هذا هو الزاد, زاد التقوى, المتضمن للاستمساك بالكتاب والسنة, فهو عُدةُ الطريق في الحياة الدنيا, به يميِّز المسلم بين الخير والشر, وبه يتحقق النصر, وبه تحصل النجاة, فهو وعْدُ الله الذي لايتخلَّف, وسنته الماضية في خلقه، ) إِنَّ اللَّـهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّـهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ(.