الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الإيمانية @ 4ـ مفهوم العبادة الشامل


معلومات
تاريخ الإضافة: 6/9/1427
عدد القراء: 12137
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله الذي أعزَّ المؤمنينَ بطاعتِهِ, وأذلَّ المخالفينَ بمعصيتِهِ, رفع العابدين الطائعين, ووضع العاصين المنحرفين, أمر بالعبادة على منهجه, ورتب على ذلك الثواب, ونهى عن الاستكبار عن عبادته, وتوعَّد على ذلك بالعقاب. أحمده وحده لا شريك له, بيَّن منهج العبادة, وحذَّر من طريق الغواية, فالحق فيما شرع, والباطل فيما نهى, أكمل الطريقة للعابدين, ووضَّح المسلك للسائرين, فسبحانه ما أرحمه, وألطفه بعباده.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المستحق وحده للعبادة, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام العابدين, ورسول رب العالمين, بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون, فبلغ الرسالة, وأدَّى الأمانة, وأقام الدين كما أرادَ ربُّ العالمين، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم على الهدى والنور إلى يوم الدين.

أما بعد.. فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنَّـكم إنمَّا خُلقتم للعبادة, ليس لكم في هذه الحياة مهمةٌ سوى العبادة: قال الله تعالى:

) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُـدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (.

 )وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّـهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ(.

) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (.

) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حق الله على العباد: أن يعبــدوه ولا يشركوا به شيئاً ».

أيها الإخوة: إنَّ المقصودَ من العبوديةِ: كمالُ الذُّلِ والخضوعِ والطاعةِ لربِ العالمينَ, بحيث يشعر العابد بالفقر أمام من يملك الغنى, ويشعر بالحاجة أمام من يملك الضر والنفع, ويشعر بالضعف أمام من يملك القوة والجبروت, ويشعر بالجهل أمام من أحاط بكل شيء علماً. فبقدر ما يعرف العبد من عجز نفسه, ويعرف من كمال ربه : يزداد ذُلاً, وخضوعاً, وطاعة لله رب العالمين, فتسكن لذلك نفسه, ويطمئن إلى ذلك قلبه, حتى تصبحَ أوامرُ الله تعالى أحبَّ الأعمال لديه, وتصبح النواهي أبغض الأعمال لديه, حتى يبلغ العبد بطاعته وذلِّه لله درجة الولاية, فلا يكاد يصدر عنه إلا ما يُرضي الله تعالى, من الأقوال والأعمال الظاهرة والخفية.

أيها المسلمون: إنَّ الطبيعةَ الفطريةَ التي جُبل عليها الإنسان: لا تسمح له بأن يحيا في الحياة بغير عبادة, فإما أن يعبد الإله الحق المستحق للعبادة وحده, وإما أن يعبد آلهة أخرى كما قال الله تعالى:

) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ وَالْـمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(.

) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ *  وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (.

 ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّـهُ عَلَى عِلْمٍ  (.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تعس عبد الخميصة, تعس عبد الخميلة, إن أُعطي رضي, وإن لم يُعط لم يرض ».

فالإنسان: عبدٌ, فإما أن يكون عبداً لله تعالى, متحرراً من العبودية لغيره, معتزاً بانتمائه إلى الله تعالى, وإما أن يكون عبداً للشيطان, أو السلطان, أو الهوى, أو المال ونحوها من المعبودات الباطلة. فمن ظنَّ من العبيد: أنَّ له أن يخرج عن عبوديته لله تعالى, فليخرج عن ملك الله تعالى, وليتوسَّد أرضاً غير أرض الله, وليستظلَّ بسماء غير سماء الله, وليأكل من غير رزق الله. فإن عجـــــز عن ذلك وهو لا شك عاجز فلا يستكبر عن عبادة الله, وليدخل مع المؤمنين, فإنَّ الأمر لله تعالى وحده, والخلق لله وحده, وليعلم أنَّ العبوديةَ نظامُ كونيٌ عام, شامل لكل الموجودات: العاقل والأعجمي, العظيم والحقير, الصغير والكبير كما قال الله تعالى: )إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (, ) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ(. فالرافض للعبودية: خارج عن نظام الكون, مخالف لطبيعة الحياة, وحقيقة الوجود.

أيها الإخوة: إذا كانَ هذا مقامَ العبادةِ في الإسلام, وأنَّها مهمةُ المكلفين التي لا تنقطع عنهم إلا بالموت كما قـال الله تعالى: ) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (, فما هي حقيقة العبادة, وما هي صورتها المثلى في منهج الإسلام؟ . إنَّ العبادة في التصور الإسلامي تشمل كلَّ ما يُحبُّهُ الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة, سواء كان ذلك من الشعائر التعبدية كالصلاة, والصيام, والحج ونحوها, أو من أعمال القلوب كالصبر، والحلم, والتوكل, والإخلاص ونحوها، أو كان ذلك من أعمال الحياة الدنيا كالتجارات، والصناعات, والمعاملات ونحوها بحيث لا ينفك عن مفهوم العبادة أيُّ جزئية قولية أو فعلية أو قلبية, أو حتى خاطرة فكرية عابرة. كل ذلك يدخل ضمن مفهوم العبادة في التصور الإسلامي، كما قال الله تعالى: ) قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وفي بُضْع أحدكم صدقة, قالوا يا رسول الله أيأتي أحَدُنا شهوتَهُ ويكونُ له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزرٌ ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر »، وقال أيضاً: « إنَّ نفقتك على عيالك صدقة», وقال: « ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة » ، وقال: « ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أُكل منه له صدقة, وما سُرق منه له صدقة, وما أَكلَ السبع منه فهو له صدقة, ولا ينقُصُهُ أحدٌ إلا كان له صدقة », وفي روايـــة: « فلا يأكلُ منه إنسانٌ ولا دابةٌ ولا طائرٌ إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة »، وقال أيضاً: « التاجرُ الصدوقُ الأمينُ مع النبيين والصديقين والشهداء»، وقال أيضاً: «من عاد مريضاً ناداه مناد من السماء: طبت وطاب ممشاك, وتبوأت من الجنة منزلاً »، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «عُرضت عليَّ أعمال أمتي حَسَنُها وسيِّئُها, فوجدت في محاسن أعمالها: الأذى يُماط عن الطريق».

أيها الإخوة: ماذا بقي خارج نطاق العبادة ؟ فإذا كانت الشعائر التعبدية, والصلات الاجتماعية, والمعاملات الدنيوية كل ذلك يدخل ضمن التكاليف العبادية التي يُحبها الله تعالى ويرضاها، ويُثيب عليها: دلَّ ذلك على أن العبادة في التصور الإســـــــلامي منهج المســــلم في الحياة كلِّها, مادام موافقاً لشريعة الله تعالى. فكل أعمال المؤمن عبادة, لا يُستثنى من ذلك شيء. فعبادة القلب: الإخلاص, والمحبة, والتوكل ونحوها, وعبادة العقل التفكر والتدبر وحسن النظر, وعبادة الجسد المحافظة عليه, والقيام بالعبادات الجسدية سواء كانت شعائر تعبدية كالصلاة, والصيام, والحج, أو كانت صناعات أو تجارات,
أو خدمات. فالمؤمن الحق هو الذي يُضْفي على أعماله كلِّها طابع الإيمان حتى تتحول عاداته إلى عبادات, وملذاته إلى قربات. حتى إنَّهُ ليحتسبُ الأجرَ في النومِ والأكلِ كما يحتسبُهُ في الصلاةِ والزكاةِ والصيامِ .  

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (.

أقول هذا القول وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

 

الخطبة الثانية :

الحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, أحمده وأستعينه وأستهديه, وأعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, خيرُ العابدينَ, وإمامُ الطائعينَ, عبدَ ربَّهُ بالشعائر التعبدية, فقامَ حتى تفطرت قدماه, وصام حتى قيل لا يُفطر, وحجَّ كأكمل ما يكون. وعبد ربه بالجهاد في سبيله حتى كان أقربَ إلى الموتِ من أيِّ أحد. وعبد ربه بدعوةِ الناسِ إلى الخير, وتعليمهم الدين, وعبدَ ربه بالمعاملات فكان خير بائع, وخير مشتر, وخير دائن، وخير مدين, وعبدَ ربه بحسن الصحبة فكان خير الناس لأصحابه, وألطف الناس بأهله. فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه إلى يوم القيامة.

أيها المسلمون: إنَّ هذا التصور لنهج العبادة في الإسلام لم يعد في حسِّ المسلمين واضحاً كما هو عند السلف الصالح, فقد انحسر مفهوم العبادة في حدود الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام ونحوهما, فلا يجد أحدهم غضاضة في أن يكون مصلياً صائماً حاجاً في الوقت الذي يأكل فيه الربا, ويغش في المعاملات, ظاناً أنه في المعاملات الدنيوية خارج نطاق العبادة. حتى إن الأمة لتُنحَّى عنها الشريعة بكاملها فلا تبالي مادام أنها تصلي وتصوم, وكأن الصلاة والصيام ونحوها من الشعائر التعبدية تُغني عن باقي شرائع الله تعالى التي تُنظم حياة الأمة في كل جزئياتها وكلياتها.

إنَّ مفهومَ العبادة في التصور الإسلامي لا يقبلُ التجزئة, فإما أن تكون العبادة لله تعالى وحده لا شريك له في كل شؤون الحياة, وإما أن تكون للأنداد والأرباب يتجاذبون العباد في دروب الغواية والضلال.

أيها الإخوة: إنَّ قبولَ المؤمنِ ضمن زُمرة عباد الرحمن الطائعين يفتقر إلى شرطين, أحدهما: الإخلاص لله تعالى, فلا يرجو المؤمن بعمله إلا وجه الله تعالى, والدار الآخرة, كما قال الله تعالى: ) فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (, وقوله أيضاً: ) فَاعْبُدِ اللَّـهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلا لِلّـَهِ الدِّينُ الْخـَالِصُ(, وقوله تعالى: ) وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (. وفي الحديث القدسـي قال الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك معيَ فيه غيري تركتُهُ وشركه».

وأما الشرط الثاني لصحة العبادة: فالمتابعة لمن خوَّله الله تعالى لهداية الناس, وإرشادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي يقول: «من عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رد», ويقول: «خذوا عني مناسِكَكُم », ويقول: «صلوا كما رأيتموني أصلي», ويقول أيضاً: « فعليكم بسنتي، وسنةَ الخلفاءِ الراشدينَ المهديين, عَضُّوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور, فإن كل بدعة ضلالة».

أيها المسلمون: إنَّهُ لا ينبغي أن يظنَّ ظانٌّ: أن العبادة في التصور الإسلامي جاءت للعنت والمشقة, وتكليف الناس فوق طاقتهم, فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بُعث بالحنيفية السمحة, والشريعة بُنيت على رفع الحرج, ودفع المشقة, كما قال الله تعالى: ) مَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تشْكُرُونَ(, وقوله تعالى: ) يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ(. فهذا أيها المسلمون منهج العبادة في الإسلام: شمول وكمال, ورحمة ويسر, فسيروا إلى الله على منهجه, وتحققوا بالعبادة في كل شؤون حياتكم حتى لا يفقد أحدُكم ثواب لحظة قضاها في هذه الحياة بغير ثواب عند الله تعالى.

ألا وصلوا على البشير النذير, الذي علمكم الخــــير ودلكم عليــه:
) إِنَّ اللَّـهَ وَمَلائِكَتـَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(, اللهم صلِّ وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, وارض اللهم عن الصحابة والقرابة والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين, وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين, واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين, اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل اللهم ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع هداك طالباً رضاك يا رب العالمين. اللهم أصلح أحوال المسلمين, واكشف عنهم كل شدة وكربة, وأبدلها رخاء ونعمة.

عباد الله إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.