الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الإيمانية @ 3– القضاء والقدر


معلومات
تاريخ الإضافة: 6/9/1427
عدد القراء: 1170
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله الملكِ الجبارِ, العزيزِ القهارِ, مكوِّرِ الليلِ والنهارِ, ومقدِّرِ الأقدار, يفعل ما يشاء, ويحكم ما يريد, يُعطي ويمنع, ويَصلُ ويقطع, ويُعز ويُذل, ويحيي ويميت, لا مُعقب لحكمه, وهو سريع الحساب.

أحمده على ما قدر وقضى, من خير أو شر, فله الحمدُ على ذلك كلِّهِ, حمداً كثيراً, يليق بجلاله وكماله, سبحانه وتعالى عما يفتري المفترون, ويتوهم المتوهمون, له الحجة الدامغة, والحكمة البالغة, ما قضى قضاءً إلا بحكمة, عَلِمها من عَلِمها, وجَهلها من جهلها. لا حُكم إلا حكمُهُ, ولا أمرَ إلا أمرُهُ, إليه يُرجع الأمرُ كُلُّهُ, سرُّه وجهره, الأرض والسماوات في قبضته, والقلوب بين أصبعين من أصابعه, يقلبها كيف يشاء, لا إله إلا هو, الواحد الأحد. ) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (، يعلم دبيب النملة السوداء, على الصخرة الصماء, في الليلة الظلماء. يعلم ما ينزل بكم, وما يحلُ بدياركم, وما أنتم قادمون عليه من أمر الدين والدنيا. يقول الله عز وجل مبيناً كمال علمه وإحاطته بخلقه: ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرٌ(.  ويقول عليه الصلاة والسلام: «إنَّ الله قدَّر مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض, بخمسين ألف سنة, وكان عرشه على الماء«, أي أنَّ ما يجري في هذا الكون, من الخير أو الشر, من الموت أو الحياة, من الحرب أو السلم, كل ذلك قد فُرغ منه, ودُوِّن في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة, ولا قدرة لأحدٍ أن يبدِّل, أو يغير أمر الله.  ما شاء الله كان, وما لم يشأ لم يكن,) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّـهُ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(.

فأين الصابرونُ على البلوى, المحتسبونَ أجورَهُم على الله عز وجل, الذين يتوكلون على الله, ويعلمون أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم, وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم. أين نحـنُ من نصيحــةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لابن عبــاس رضي الله عنهما: « احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تُجاهك, إذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاسـتعن بالله, واعلـــم أنَّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء, لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك, وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء, لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله تعالى عليك, رُفعت الأقلام, وجفت الصحف » ، وفي رواية أخرى قال: « واعلم أنَّ النصر مع الصبر, وأنَّ الفرج مع الكرب, وأنَّ مع العسر يسراً».

قيل إنَّ الله عز وجل أوحى إلى داود عليه السلام: « يا داود, ما من عبدٍ يعتصم بي, دون خلقي, فتكيده السماوات والأرض, إلا جعلت له مخرجاً ».  فأيُّما أحــدٍ من الناس, أو أمــــةٍ من الأمـــــم, اعتصمــــــوا بالله عز وجل, واتخذوا أسباب النصر, واستقاموا على منهجه, وتوكلوا عليه, إلا جاءهم النصر, والفرج, والفتح من حيث لا يعلمون،) إِنَّا لَـنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ*  يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار ِ (، ) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّـهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(، ) وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّـهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّـهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (.

أيها الإخوة الكرام: إنَّ الآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة, وإنما المقصود هو أن لا يخالج صدورنا شك, في أنَّ الله هو المتصــرف في عبـاده, وأنه لا قدرة لأحد, كائناً من كان, أن يَرُدَّ قضاءً أراده الله عز وجل, أو أن يُحدث أمراً لم يرده الله, أو أن يُعزَّ من أذلــــه الله, أو أن يُذلَّ من أعزه الله. ) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الـْمُلْكِ تُؤْتِي الـْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْـمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْـخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (، ) وَإِذَا أَرَادَ اللَّـهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (,) إِن يَنصُرْكُمُ اللَّـهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْـمُؤْمِنُونَ(.

يقول أمير المؤمنين, علي بن أبي طالب رضي الله عنه: « يا أيها الناس توكلوا على الله, واتقوه, فإنَّهُ يكفي ممن سواه », وصدق أمير المؤمنين ؛ فإن الله يكفي ممن سواه, يقول الله عز وجل: ) أَلَيْسَ اللَّـهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّـهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ(, بلى إنَّ الله عزيزٌ لا يذلُ من استجار به, ولا يَضيعُ من لاذَ به, كما أنه عزوجل ينتقم لأوليائه من الظالمين المعاندين, الذين يسعون في الأرض فساداً, فيُهلك الظالمين وينجِّي المؤمنين الصادقين.

اللهم أنت الأول, فليس قبلك شيء, وأنت الآخِرُ, فليس بعدك شيء, وأنت الظاهر, فليس فوقك شيء, وأنت الباطن, فليس دونك شيء, نعوذ بعزتك وقدرتك: أن نُغتال أو نُهلك, أو نُشرَّد, أو نفجَّر, أو أن تُستباح أعراضنا, وأموالنا, اللهم احفظنا بالإسلام قائمين, وبالإسلام قاعدين, وبالإسلام نائمين, ولا تُشمت بنا الأعداء, ولا الحاسدين, برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ، ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين ولا أقل من ذلك يارب العالمين.

أقول هذا القول, وأستغفر الله العظيم, من كل ذنب وخطيئةٍ وأتوب إليه, فتوبوا إليه, واستغفروه يغفر لكم, إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله وكفى, والصلاة والسلام على النبي الكريم المجتبى, وعلى آله وصحبه الأخيار الأطهار, أئمة الهدى, ومشاعل النور, وعلى من سار على منهجهم, واتبع طريقهم إلى يوم الدين, أما بعد:

فاتقوا الله عبادَ الله, وارجوا اليوم الآخر, ولا تعثوا في الأرض مفسدين .  واعلموا أن الله لا تخفى عليه خافية, والسرُ عنده علانية, ) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (.

واعلمـوا أنَّ شأنَ الله عظيمٌ, لا تدركُــهُ العقولُ, ولا تبلغه الأفهام, يقول الله عز وجل: ) وَمَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( , ويقول أيضاً: ) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ(. روى ابن عمـر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يأخذ الجبار سماواته وأرضيه بيده, ثم يقول: أنا الجبارُ, أنا الملكُ, أينَ الجبَّارون, أينَ المتكبرون ».

اللهُ أكبرُ, ما أعظمَ الله, ما أحلَمَ الله على الظالمين, ما أصبر الله على الطغاة والجبارين, الذين ينازعونه سلطانه في الأرض, وينصبون أنفسهم آلهة من دون الله, يُحلونَ ما حرَّمَ اللهُ, ويحرمون ما أحل الله, ويسفكون الدم الحرام, ويسعون في الأرض الفساد, أين هؤلاء الطغاة يوم القيامة, عندما يحشرهم الله على هيئة الذر, يطؤهم الناس بأقدامهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.

أيها الإخوة الكرام: إن الله يمهل الظالم, فإذا أخذه, لم يفلته, ) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (. إنَّ الله يعلم ظلم الظالمين, ويعلم مكر الماكرين, ولكنه سبحانه وتعالى, لا يُعجِّل بالعقوبة, حتى تقوم الحجة, فيتوب العاصي, ويستغفر المذنب, يقول الله عز وجل: ) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّـهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَـإِذَا جَاء أَجَلُهُـمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعــَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ(، إن الذي يحدد موعد هلاك الظالمين هو الله عز وجل فلا يستأخرون عن موعدهم ساعة ولا يستقدمون, فإذا أخذهم سبحانه وتعالى كان أخذُهُ أليماً شديداً.

أيها المؤمنون : يا من آمنتم بالله رباً, وبالإسلام ديناً, وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً, تحققوا, وأيقنوا دون أدنى شك, بأن هذه المشكلات, وهذه الفتن العمياء, التي تعيشها الأمة في هذه الفترة العصيبة من تاريخها, إنما حلُّــها بيد الله عز وجل, وليس حلُّها بيد أحــدٍ من النـاس, فالكل فقراء إلى الله,
والله هو الغني الحميد, الذي يقول في كتابه العزيز: ) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(، فاسألوه وحده, واستغيثوا به, وادعوه دعاء الغريق المشرف على الموت, دعاء المضطر, دعاء الخاشع المتذلل. واعلموا أنَّ من أهم شروط استجابة الدعاء: أكل الحلال, وردَّ المظالم إلى أهلها, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وجماع ذلك: الاستقامةُ على منهجِ اللهِ عز وجل. كما لابد من التوبة النصوح, الصادقة, التي نســتمطر بها مَدَدَ الله, ونصــره الذي لا يتخلف أبــداً عن عباده المؤمنـــين:
) إِن تَنصُرُوا اللَّـهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لـَّـهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَـهُمْ (.

اللهم لك أسلمنا, وبك آمنا, وعليك توكلنا, وإليك أنبنا, وإليك المصير, اللهم نسألك بأنك الله الذي لا إله إلا أنت, الحنانُ المنانُ, بديعُ السماواتِ والأرضِ, تفعلُ ما تشاء, وتحكم ما تريد, أمرك بين الكاف والنون, نسألك بفقرنا إليك, وغناك عنا, أن تخرجنا والمسلمين من هذه الفتن العمياء مخرج صدق, وأن تحفظنا جميعاً من شرورها, وأن تقمع أهل الفسق والفساد, الذين يجلبون الدمار على العباد. اللهم إنا نعلم أنَّ ما أصابنا هو من عند أنفسنا, اللهم فأصلح فساد قلوبنا, وأصلح ما فسد من أحوالنا, وهب لنا ساعة توبة, تمحُو بها السيئات, وتقيل بها العثرات, إنك سميع الدعاء. اللهم أصلح وُلاة أمور المسلمين عامة, وولاتنا خاصة, واجعل اللهم ولايتنا في من خافك واتقــاك, واتبع هــداك طالباً رضاك يا رب العالمين. اللهم من أرادنا وأراد المسلمين, وأراد هذه البلاد بسوء, فاشغله بنفسه, وردَّ كيده في نحره, وشتت شمله, وفرِّق جمعه, واجعله عبرةً لغيره.

اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ, يُعَزُّ فيه أهل الطاعات, ويُذلُّ فيه أهل المعاصـــي والمنكــرات, ويُؤمَرُ فـــــــيه بالمعروف ويُنهى فيــــــه عن المنكر يا سميع الدعاء.

اللهم احفظ أولادَنَا وبناتِنَا من كلِّ سوءٍ, اللهم اجعلهم قرَّة عينٍ, وأنبتهم نباتاً حسناً, اللهم احفظ نساءنا, وأسبغ عليهن جلباب الحياء, واحفظهنَّ من دعاة الضلالة والفساد.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وسيدنا محمد, خير البرية, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان, وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون.