الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ الشعور بالعورة بين الفطرة والشرع


معلومات
تاريخ الإضافة: 1/1/1439
عدد القراء: 2471
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

مقال شهر محرم 1439هـ

الشعور بالعورة بين الفطرة والشرع

          الحمد لله تعالى الواحد الأحد ، والصلاة والسلام على النبيِّ محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فإن المُراجع لكتب الفقه الإسلامي يجد الحديث مطوَّلاً عن أحكام العورة ، باعتبار ذلك خصوصيَّة للمُكلَّفين من بني آدم ، لا يشترك معهم في أحكامها شيءٌ من طوائف المملكة الحيوانيَّة ، التي كانت وما زالت ، وسوف تبقى بلا قيود خلُقيَّة ، ولا آداب سلوكيَّة بشأن العورة ، وإنما تخضع لنهج هدايتها الغريزيَّة .

          وهذا الفارق الجوهريُّ بين سلوكيْ الإنسان والحيوان : يتجسَّد في حرج الإنسان من بدوِّ عورته ؛ بحيث يعظم ذلك في نفسه ، بقدر شعوره بقبح ظهور العورة ، فقد يبلغ الحياء عند بعضهم فيستتر في خلوته ، وربَّما بالغ بعضهم ، فلا يرى عورته في غسْل ولا طهارة .

           وبغضِّ النظر عن الحدود المشروعة في ستر العورة عند فقهاء الإسلام ؛ فإن ستْرها – وإنْ بالغ المرْء فيه – هو الأقرب إلى الشرع منه إلى نقيضه ؛ إذ إن الاحتياط للحرام أو المكروه – في مثل هذه المسائل السلوكيَّة - لا يُنكر على الحييِّ من الناس ، ممَّن تُلحُّ عليه فطرته بشيء من ذلك ؛ فقد كان نبيُّ الله موسى – عليه الصلاة والسلام – في الغاية من هذا ، حتى حُكيَ أنه كان لا يُرى من بشرته إلا ما لا بدَّ منه ، ولهذا تجرَّأ عليه بعض سفهاء بني إسرائيل ، فاتهموه بعيب قبيح في جسده يتحفَّظ منه ، ويخشى ظهوره للناس ، حتى برَّأه الله تعالى مما اتهموه به من العيب .

           والعورة كلَّما غلُظت : كان ستْرها بالفطرة والشرع أبلغ ؛ ولهذا لا يُعذر المُكلَّف في أخذه أسباب الستر ، ما أمكنه إلى ذلك سبيلاً ، لا سيما لأداء فرْض صلاته ، حتى إنه – إنْ اضطُرَّ – استتر بقطع الجلود ، أو أوراق الشجر ، أو الطين ، أو حتى الحفْرة يأْوي إليها ، فهذا خيرٌ له من انكشاف عورته للناظرين .

           وتعْظم مسألة العورة في حقِّ الأنثى من بني آدم ؛ فساحة عورتها أوسع ، وحُرمة النظر إليها أشدُّ ، فلا يُتصوَّر - في الفطرة الاجتماعيَّة السويَّة - أن يسْتتر أوَّل رجل ، قبل أن تسْتتر آخر امرأة ، فما زالت المجتمعات الإنسانيَّة - على اختلاف مشاربها ومِللها - تُعظِّم عورات النساء ، أكثر من تعظيمها عورات الرجال ، ولهذا إذا فقد بعض الناس الملابس والأردية في بعض الكوارث أو الحوادث أو الجوائح ؛ فإنهم يتعاضدون ويتعاونون في حفظ عورات النساء أولاً ، قبل رعايتهم لعورات الرجال .

         ورغم هذه الفطرة الإنسانيَّة المُطْردة في المجتمعات الحضاريَّة ، إلا أن الواقع المعاصر ، منذ بدايات القرن العشرين الميلادي : يسير في غير اتجاه الفطرة ، لا سيما في حال الرفاهية والوفْرة ؛ فمنذ زمن وملابس النساء - في الحياة العامة - تضيق وتقْصُر ، وحجم أقْمشتها يقلُّ ويصغُر ، كما أن ملابسهنَّ - من جهة أخرى – أخذت تتحرَّر من أشكالها النسائيَّة التقليديَّة ، لتصبح ذكوريَّة أكثر ، فلم يعد يُميِّزها عن ملابس الرجال إلا الأحجام ، وشيءٌ يسيرٌ ومن النكهات والرموز النسائية التي لا بدَّ منها .

         في حين بقيت ملابس الرجال – في العموم – على سابق أشكالها التقليديَّة ، في استيعابها لعوراتهم ؛ فضلاً عن أن تنْساق نحو ملابس النساء ، فما زالت القوانين الوضعيَّة – فضلاً عن الشريعة الربَّانية – تُجرِّم ظهور الرجل في ملابس المرأة في الحياة العامَّة ، مع ما طرأ على ملابس الرجال من : لمسات التأنق ، ولطيف الملْمس ، وحُسن الأقمشة ، ومع ذلك بقيت – في الجملة - ذكوريَّة الطابع ، متبرِّئة من الطابع الأنثوي الفجِّ .

           إن اللباس السابغ حضارةٌ إنسانيَّة أصيلة ، قد ضربت أطنابها في أعمق ما في التاريخ البشري ؛ فأبو البشر وزوجه – عليهما السلام – حين أزلَّهما الشيطان ، فأكلا من الشجرة الممنوعة : لم يُمهلا حتى انكشفت لهما سوءاتهما ، بعد أن كانت مستورة بلباس من الجنة ، فما كان منهما إلا أن شرعا معاً في ستْر ما بدا من عوراتهما بورق من أشجار الجنة ، على نحو ما حكى المولى - عزَّ وجلَّ – في غير ما سورة في القرآن الكريم من خبرهما هذا .

            والشاهد في هذا الخبر يظهر في أمرين اثنين ، الأول : من جهة ارتباط الإنسان الأول باللباس حال الرفاهية ، كجزء أصيل في بنائه الفطري ، رغم غياب جملة التكاليف الشرعيَّة عنه آنذاك ، إلا ما كان من أمر الشجرة الممنوعة ، فلم يكن مُسْتساغاً لزوجين ، ليس بينهما ثالث من جنْسهما : أن يتجرَّدا ممَّا يستر عورتهما ، بل كانا في نعمة الستر ، كما وصف الله تعالى .

            وأما الأمر الآخر ، فيظهر في هذا الهلع الفطري من بدوِّ سوءاتهما ، عندما فُجعا بانكشافهما ، حين ذاقا شيئاً من ثمار الشجرة المحرَّمة ، فلم يتمالكا نفسيْهما حتى هرعا يستتران بشيء من ورق أشجار الجنة ، فكان ذلك أوَّل عمل قاما به بعد العصيان ، وقبل الشروع في التوبة ، فدلَّ على أن ظهور العورة - لا سيما المُغلَّظة منها - مُستقبحٌ فطريًّا ، قبل أن يكون مُحرَّماً شرعيًّا .

           وهذا يُؤكِّد أن مشاعر الانزعاج من انكشاف العورة : سلوكٌ فطريٌّ أصيلٌ وعميق ، يستشعره كلُّ من يعيش فطرته البشريَّة السويَّة ، فلا تخبو مشاعره المُقْلقة من انكشافها للناظرين ، إلا عند منْكوس الفطرة ، ممَّن فقد إنسانيَّته الطبيعيَّة ، ودسَّ خُلُقَه في أصله الطينيِّ الوضيع ، فإن العورة ما سُمِّيت سوءةً ، إلا لما يلْحق صاحبها من السوء والمعرَّة بانكشافها ، فإذا لم يسؤه بدوُّها : فهو إلى سلوك الحيوان أقرب .

            ولهذا فإن العورة ساحة بشريَّة مُحرَّمة ، وما شُرع الاستئذان للبيوت - بنصوص قرآنيَّة ونبويَّة مُحكمة - إلا من أجل النظر ، حتى إن الشرع أهْدر عين المُتلصِّص إذا فُقئت في استراقه النظر إلى عورات البيوت المستورة ، فنظرة واحدةٌ من فاسقٍ جريءٍ ، قد تكلِّفه عوَر الدهر ، ومثل هذا يدلُّ على تعظيم الشرع الحنيف للعورة .

          ومن لطيف ما يُنقل في كتب الفقه الإسلامي ، في شأن النظر إلى العورات المحرَّمة : إبطال صلاة من تعمَّد النظر إلى عورة غيره ، فكيف بانكشاف عورة نفسه ؟! ولهذا نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن جلْسة لا يتحفَّظ فيها الإنسان على عورته ، وعن ثوب قصير لا يشمل العورة بتمام الستر ، وعن قماش رقيق يشفُّ عمَّا وراءه ، وعن لباس ضيِّق يصف ما تحته .

          وبذلك دخلت أحكام ستر العورة في حياة المسلم التعبُّديَّة والاجتماعيَّة دخولاً شاملاً ؛ بحيث غدا اللباس السابغ جزءاً أصيلاً من شؤون المسلمين الخاصَّة والعامَّة ، وأصبح الاستكثار من اللباس في حركة الإنسان الاجتماعيَّة وعرفه العام : مؤشِّراً حضاريًّا على التقدُّم والرقي ، فازدهرت لذلك صناعات النسيج والملابس ، في الوقت الذي بقيَ فيه العريُّ والتخفُّف من اللباس : مؤشِّراً على التخلُّف الحضاريِّ ، والانحطاط الثقافيِّ .