الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ حقُّ التعبير عن الوساوس


معلومات
تاريخ الإضافة: 1/8/1437
عدد القراء: 2738
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

مقال شهر شعبان 1437هـ

حقُّ التعبير عن الوساوس

        الحمد لله بذكره تطمئن القلوب ، وباسمه تنشرح الصدور ، وعلى نهجه تسعد النفوس ، أحمده وأستعينه وأستغفره ، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيِّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، خير نبيٍّ أرسله بالهدى والنور ، فبلَّغ الرسالة أحسن تبليغ ، وأدَّى الأمانة أحسن أداء ، وترك الأمة على طريق مستقيم ، ونهج واضح قويم ، لا يزيغ عنه إلا هالك ضال ، أما بعد .. فإن داخلة الإنسان تعجُّ بالحركة والنشاط ، وتموج بالخواطر والأفكار ، وتمور بالوساوس والأوهام ، فيعلق بذاكرة الإنسان ما يعلق ، ويذهب في غياهب النفس ما يذهب .

        وما زال الفطناء يدافعون ما يجول في نفوسهم ، ويقاومون ما يطيف بعقولهم ، مما لا يُعقل ولا يُقبل ، من الأفكار الغريبة ، والأوهام الرديئة ، والوساوس الخطيرة ، مما تقذفه الشياطين في النفوس ، ومما يتردَّد في العقول ، فلا يقبلون منها إلا ما وافق العقل والمنطق الصحيح ، والمؤمن العاقل يزيد على ذلك – في قبوله ورفضه - موافقة الشرع الحنيف ، فما زالت النفس البشريَّة ساحة واسعة لواردات شتَّى ، فإذا لم يواجهها - بالتقويم والتفنيد - شرع ولا عقل ؛ فإن فوضى الأهواء المتضاربة ، وانتكاسات العقول القاصرة ، وصراعات النفس المحتدمة : هي مصير الإنسان المحتوم ، حين يفقد أدوات التمييز الشرعيَّة والعقليَّة ، فلا يعود يفرِّق بين موارده الصحيحة والرديئة ، الطيِّبة والخبيثة ، فيصبح أسيراً لصراع الأهواء والأفكار ، ونهباً لموارد العطب والعطل ، فما يزال أحدهم يساير أهواء نفسه ، ويقبل وساوس صدره ، ويلاطف رديء فكره ، حتى ينحطَّ في دركات سحيقة من نتن الفكر ، ويقع في سقطات قبيحة من رديء السلوك ، فإن الساحة الفكريَّة المعاصرة تعجُّ بالتائهين ، وكذلك الساحة الاجتماعيَّة - هي الأخرى - تزدحم بالساقطين ، ممن استسلموا لأهوائهم الفكريَّة ، وأذعنوا لشهواتهم النفسيَّة ، فعطَّلوا مهارة التعقُّل بالعقول ، وأبطلوا مميِّزة الضبط للسلوك ، فعادوا أحطَّ من البهيمة العجماء في الاهتداء إلى مصالحها ، وأضلَّ منها في تجنُّبها لمضارِّها ومفاسدها .

         إن من أسوأ ما مُنيَ به سفهاء العقول اعتقادهم بحق التعبير عما يجول في نفوسهم من الآراء والأفكار ، باعتبار ذلك فكراً في نظرهم ، هو ثمرة نظر وتأمُّل وتفكُّر ، يستحق النشر والإذاعة ومشاركة الآخرين ، وعلى هذا الاعتقاد السخيف لا يتورَّع هؤلاء من عرض مواردهم النفسيَّة عبر المتاح من وسائل التواصل الاجتماعي ، التي سهَّلت على هؤلاء وأمثالهم عرض ما لديهم بأبخس الأثمان ، وأرخص الأسعار ، إضافة إلى سعة الانتشار وسرعته .

          وآخرون منهم تجرَّؤوا على مواجهة الجماهير عبر الفضائيات المباشرة ، فبرزوا بأفكارهم الشاذة على الناس عبر الشاشات الصغيرة ، والقنوات الكثيرة ، بعد أن جسُّوا نبض المجتمع تجاه أفكارهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي المستورة ، فوجدوا من يؤيِّدهم على آرائهم وخواطرهم ، باعتبارها فكراً يستحق التداول .

          إن الساحة الإعلامية في هذا الزمان قد امتلأت عن آخرها بالكلام ، والصور ، والألوان ، والموسيقى ، مع السرعة الفائقة والتداخل الفني ، مما شكَّل قوَّة ناعمة ماضية ، تضغط بثقلها على عقول المستقبلين ونفوسهم ، فتسكب في روعهم كمًّا هائلاً من هذه المتغيِّرات الصاخبة والمتنافرة والمشوَّشة ، التي لا تسمح للعاقل – فضلاً عن السفيه – بالنظر أو التأمل ؛ لما امتازت به من السرعة والاستمرار والتدفُّق ، فما تزال الشخصيَّة الإنسانية – بضعفها - تستقبل هذا الوارد الكبير ، الذي يخالج النفس ، ويداخل العقل ، ويداعب الغريزة ، مع ما يحدثه من التشويش الصاخب ، والتنوِّع المفرط ، الذي عادة ما يرافق هذه الوسائل ، فهذا التكدُّس الكبير والمستمر لا يمكن أن يمضي بسلام عبر العقل والنفس والبدن ، دون أن يخلِّف وراءه أثراً ما على مستقبلات الإنسان المختلفة ، فحجمٌ ما - يقلُّ أو يكثر - من المتغيِّرات المستحسنة للمستقبل أو المكروهة عنده لا بد أن تعْلَق بشخصيَّته ، أحبَّ ذلك أو كرهه ؛ فإن من المسلَّم به تربويًّا : أن ما يجري على جوارح الإنسان ، قدر منه لا بدَّ أن يبلغ الباطن ، وما يقع في الباطن لا بدَّ أن ينعكس قدر منه على السلوك الظاهر ، فالتبادل الشخصي عند الإنسان بين المدخلات الواردة عليه ، وبين المخرجات الصادرة عنه : أمر مسلَّم به في الشأن التربوي ؛ إذ لا يمكن أن يتعرَّض الإنسان لكلِّ هذه الواردات الكثيرة والمستمرة : الفكريَّة ، والخلقيَّة ، والروحيَّة ، والنفسيَّة ، دون أن تترك أثراً تخلِّفه على شخصية المتلقِّي ، فإن العقل الصريح والواقع المشاهد يحيلان مثل هذا الظَّن الضعيف .   

        ومن هنا فإن تراكم هذه الواردات الكثيرة على الفرد ، وما يعاضدها من ضغوط الحياة ومنغِّصاتها ، وما يتبعها من صراعات التنافس الاجتماعي ، وما يلحق بها من المشكلات الأسرية والزوجيَّة ، وما ينتج عنهما من أزمات فرديَّة وجماعيَّة ، كلُّ ذلك يُعد الأرضية الخَرِبة للشخصيَّة المثقلة ، المهيَّأة لقبول الأفكار الشاذة ، والقابلة للوساوس الباطلة ، والمستقبلة للمنامات الموحشة ، فما يلبث أحدهم طويلاً حتى يُفصح عما يجول في خاطره ، من قذى العيون ، ونتن العقول ، دون أن يميِّز بين رديء وحسن ، وبين طالح وصالح ، فبقدر ما تُحدث أطروحاته الغريبة من ردود فعل اجتماعيَّة- إيجابيَّة وسلبيَّة - يكون حجم سعادته النفسيَّة ، ودرجة قناعته العقليَّة ، باعتبار أن آراءه كانت موضع اهتمام الآخرين ورعايتهم .

        إن المشكلة تكمن في سعة السوق الإعلاميَّة الرديئة ، التي تستقبل مثل هذا الزغل التافه ، فتفتح دكاكينها لكلِّ غادٍ ورائح ، فبقدر ما يجده هؤلاء المغرورون من التسفيه والصدود : يجدون أمثاله من الترحيب والقبول ، فيبقى أحدهم أسيراً لموارده العقليَّة والنفسيَّة ، مما تقذفه الشياطين في الصدور الحرجة ، ومما تجيش به النفوس المثقلة ، فيرشح على العقول القاصرة ، فيطير به السفيه مغترًّا به .

         إن موارد النفس والعقل ، وما يطرأ عليهما من الخواطر والأفكار ، ليست كلُّها مستنكرة ابتداء ؛ بحيث تُرفض جملة واحدة بلا تمييز ، فالشرع المبجَّل يحكمها ؛ فيرفض منها ويقبل ، تماماً كما يحكم سائر أعمال الإنسان تصرُّفاته المقبولة منها والمرفوضة ، فما كان منها خاضعاً لإرادة المكلَّف واختياره لحِقتْه المساءلة الشرعيَّة ، وما كان منها بغير إرادته عُفيَ عنها ، ما لم يتحدَّث بها ، أو يعمل بمقتضاها .

         هذا من جهة ، ومن جهة أخرى : فإن للواردات العقلية والنفسية المستحسنة رصيد ثقافي سابق لا بد منه ، وذخيرة علمية مدَّخرة لا يُستغنى عنها ، تُهيئ - في مجموعها – للشخصيَّة النبيهة منابت طيبة لبزوغ الأفكار الجديدة ، والآراء الفريدة ، والمقترحات البديعة ، مما تقبله العقول ، وترتضيه النفوس ، فما زال التفاعل العلمي ، والمكابدة البحثيَّة ، والتأمُّل الفكري : يمدُّ العقل والنفس معاً بالخواطر الرائدة ، والأفكار النيِّرة ، مما يندرج أحياناً ضمن نطاق الإبداع الفكري المحترم ، فالمعاناة العقليَّة وتفاعلاتها العلميَّة : هي مادة الخاطرة الطيبة ، والفكرة المستحسنة ، والإلهام الصادق ، وفي المقابل فإن الجهالة العلميَّة ، والضحالة الفكرية ، وفقر المعلومات : هي مادة الخاطرة الرديئة ، والفكرة الفاسدة ، والوسوسة الموحشة .   

        إن النبيه الموفَّق لا يقدُم على البوح بخواطره وآرائه ، وما يقع في نفسه من المعاني والأفكار ، مهما بدا له من حسنها ، إلا أن يحاكمها إلى الشرع أولاً ، فإن عجز عن ذلك لقصور فقهه : أنزلها بعاقل مجرِّب ، ممن له حظٌّ من الشرع والفهم ، فإن أناساً تمادوْا مع نفوسهم الضعيفة ، واعتمدوا على عقولهم الخفيفة ، واستسلموا لأهوائهم الشاردة : فأتوْا بما يضرُّ دينهم ، ويُذهب إيمانهم ، حتى إن بعضهم من شدَّة اضطرابه العقلي ، وضيقه النفسي ، وشِقاقه الاجتماعي : يأتي بتعبيرات غليظة شاذة ، تقشعرُّ منها الأبدان ، وتشمئزُّ منها النفوس ، وتنفر منها العقول ، مما لا يصحُّ البوح به مطلقاً ، ولا يجوز التصريح بمضمونه أبداً .

        وقد سبق أن سأل بعض الصحابة – رضوان الله عليهم – رسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّا قد يطيف بنفوسهم من الشوارد الشاذة ، والوساوس المزعجة ، والصور القبيحة ، ومع ذلك لم يصرِّح أحد منهم بمضامين هذه الواردات لتمام فقههم ، وصحَّة عقولهم ، وسلامة فِطَرهم ؛ فإنه لا ينسجم مع مثل هذه التلاعبات الشيطانيَّة إلا مغرور ، ولا يتلقَّفها إلا عاطل ، ولا يحدِّث بها إلا مهووس .

         ومن هنا فإن التعبير عمَّا تجيش به النفس ، أو مما يدور في الخلد ، أو مما توسوس به الصدور : ليس حقًّا مطلقاً للإنسان ، بل هو كغيره من السلوكيات المحكومة بالشرع الحنيف ، ضمن ما كلَّف الله تعالى عباده من الالتزامات الشرعيَّة ، وهو أيضاً نوع من أنواع الابتلاءات التي تُحيط بالمكلَّف ، مما قدَّره الله تعالى على عبيده لينظر كيف يعملون ؟ وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به نفسها ، ما لم تعمل به أو تتكلَّم ) .