30- فطرة الاحتجاب عند المرأة

30- فطرة الاحتجاب عند المرأة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد... فإن الله تعالى خلق الكائن البشري على طبيعة مغايرة عما خلق عليه المخلوقات الأخرى: العلوية والسفلية، وفطره على طباع تختلف عما فطر عليه غيره من الكائنات، وجبله على سجايا وخصال تميِّزه عن غيره من أنواع المملكة الحيوانية، فهو كائن متفرِّد، لا يماثله من المخلوقات شيء، ولا يشابهه في طباعه منها نوع، إلا ما كان من أصل الخلْقة الترابية؛ فإن التراب هو أصل دواب الأرض بما فيها الإنسان، كما قال الله تعالى عن أصل الإنسان:{ وَلَقَدْخَلَقْنَاالإِنسَانَمِن سُلالَةٍمِّنطِينٍ...} 23/12، إلا أنه – مع ذلك – ينفرد بكيانه الروحي العلوي عن سائر الدواب، كما قال تعالى: { فَإِذَاسَوَّيْتُهُوَنَفَخْتُفِيهِ مِنرُّوحِي... } 15/29، مما أهَّله - دون غيره من العجماوات – إلى مرتبة التكاليف الربانيـة، التي اقتضت الإلزام بالأحكام الشرعيـة، وعليها يكون الثــواب والعقاب، كما بيَّن سبحانه وتعالى ذلك بقوله: { قُلْنَااهْبِطُواْمِنْهَاجَمِيعاًفَإِمَّايَأْتِيَنَّكُممِّنِّيهُدًىفَمَنتَبِعَ هُدَايَفَلاَخَوْفٌعَلَيْهِمْوَلاَهُمْيَحْزَنُونَوَالَّذِينَكَفَرواْ وَكَذَّبُواْبِآيَاتِنَاأُولَـئِكَأَصْحَابُالنَّارِهُمْفِيهَاخَالِدُونَ} 2/38، 39.

ولئن كان الإنسان قد تشابه مع بعض الثديَّات في شيء من الطبائع الخلْقية والسلوكية؛ فإنه – مع ذلك – قد بان عنها – بصورة كاملة – في القدرة الإرادية، التي أهَّلته لحمل الأمانة الربانية؛ فإن مجرَّد التشابه بين الإنسان وبعض الحيوانات الثديَّة في بعض الصفات المادية والسلوكية لا يعني – بالضرورة – التماثل والتطابق؛ فكم هي الكائنات في الطبيعة التي تتشابه في الأشكال ثم تتباين – بعد ذلك – في الطبائع والصفات.

وإن من أعظم مظاهر التباين بين عالمي الإنسان والحيوان: طبيعة التستر والتحفظ عند الإنسان، ضمن مفهوم العورة، التي يستحي الإنسان من ظهورها، وهذا المفهوم منعدم تماماً في عالم الحيوان، ولهذا يرتكس الإنسان حين لا يبالي بانكشاف عورته إلى مرتبة الحيوان، ولا يصدر مثل هذا السلوك الشائن عن الإنسان إلا حين يتلبَّس بمعتقدات باطلة زائفة تسيطر على سلوكه، وتخرجه عن طبعه السوي، كما يحصل من بعض أصحاب الديانات الباطلة في القارة الهندية.

ولئن كانت مشاعر الإنسان تجاه انكشاف العورة بهذه الحساسية؛ فإنها عند أنثى الإنسان أشد وأبلغ، وأشمل ساحة منها عند الذكور؛ ولهذا تُحفظ الأبكار من الفتيات في الخدور المستورة في البيوت؛ ليكنَّ أبعد ما يمكن عن الانكشاف والظهور، ولهذا لما أراد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يتخذ قراراً عاماً مثيراً، قال: "لأقضينَّ في الكلالةبقضاء تتحدث به النساء في خدورها"، فلم يجد رضي الله عنه تعبيراً يدل على الشمول والقوة والمنعة من وصول الأخبار إلى خدور النساء، وذلك لكونها بعيدة المنال؛ لذا كان العمل الأوفق في مقاضاة المرأة المخدرة أنها لا تُدعى إلى مجلس القضاء ، وإنما يأتيها القاضي بنفسه، أو من ينيبه ليسألها ويسمع منها من وراء حجاب.

يقول ابن عبد السلام – رحمه الله – في التأكيد على حفظ العورات: "المبالغة في ستر العورات من أشرف المروءات"، وهذا عام في الجنسين، إلا أنه في حق الإناث آكد وأبلغ، وإلى هذا يشير ابن بطال – رحمه الله – في شرحه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين استأذنته في الجهاد: "جهادكنَّ الحج" ، حيث يقول: "ليس للمرأة أفضل من الاستتار، وترك المباشرة للرجال بغير قتال، فكيف في حال القتال التي هي أصعب، والحج يمكنهن فيه مجانبة الرجال والاستتار عنهم، فلذلك كان أفضل لهن من الجهاد"، فكان تقديم الحج على الجهاد في حقِّهنَّ من جهة كونه أستر لهن وأحفظ، وهذا حين لا يكون الجهاد فرض عين على الجميع، وإلا فإن الجميع حينئذٍ يشارك بما فيهم الشيوخ والنساء والعبيد والأطفال للضرورة.

ولما كان التستر في حقهنَّ آكد جاء فرض الحجاب عليهن في الحياة العامة، وعند الأجانب من الرجال كما قال الله تعالى: {... وَلْيَضْرِبْنَبِخُمُرِهِنَّعَلَىجُيُوبِهِنَّ وَلايُبْدِينَزِينَتَهُنَّ...}24/31، وكما قال أيضاً: { يَاأَيُّهَاالنَّبِيُّقُللِّأَزْوَاجِكَوَبَنَاتِكَوَنِسَاءالْمُؤْمِنِينَيُدْنِينَ عَلَيْهِنَّمِنجَلابِيبِهِنَّ...} 33/59، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبايع بعض النساء على عدم التبرج، وربما أرسل إليهن خمراً يتسترن بها، وقد كان – عليه الصلاة والسلام – حريصاً على حفظ عورات النساء، حتى إنه حارب يهــود بني قينقاع وأجلاهم من المدينــة لما حاولوا كشف عـورة امرأة مسـلمة، فهو – عليه الصلاة والسلام – أولى بمثل هذه المواقف الصارمة من بعض عرب الجاهلية الذين أشعلوا حروباً من أجل كشف وجه امرأة منهم.

ويمثل الحجاب الشرعي خاصية للمرأة المسلمة تميزها عن الذكور وعن النساء غير المسلمات، فهو ميزة لصاحبة العقيدة والخلق تنفرد بها عن المتبرجات؛ وذلك لأن دوره ملموس في سلوك المرأة، وفعاليته بارزة في تصرفاتها في الحياة الاجتماعية العامة، فهو قبل كل شيء تكليف رباني للمرأة المسلمة بنصِّ الكتاب والسنة وإجماع الأمة، بحيث يكفر من يرى جواز التبرج، أو يستهزئ بالحجاب الشرعي، وتفسق من تنزعه من النساء ولو أقرت بوجوبه، فليس الحجاب تراثاً اجتماعياً قابلاً للتغيير كما يزعم بعضهم، أو فرضاً فرضه الرجل على المرأة ليستحوذ عليها ضمن ممتلكاته، وإنما هو تكليف رباني للمجتمع المسلم عامة، يقرره ويأمر به ويحث عليه، وتكليف للمرأة المسلمة على الخصوص، تؤمن بفرضه، وتلتزم به.

وهذا يدل على أن الشريعة الإسلامية جاءت بالتفريق بين الرجال والنساء في بعض الأحكام، فبقدر ما يشترك الجنسان في الأحكام العامة الواردة في الكتاب والسنة، فإنهما – مع ذلك – يختلفان في أحكام خاصة، اختص الله بها كل جنس على حدة، وهذا على عكس ما يُراد من مفهوم (الجندر)، الذي تنادي به بعض المنظمات الدولية، وتوصي به بعض المؤتمرات العالمية الخاصة بالمرأة، والذي يهدف إلى رفض الهوية الجنسية للذكر والأنثى، وإلغاء الدور المسبق لكل من الرجل والمرأة؛ باعتبار أن السلوك الإنساني الخاضع لنوع الجنس سلوك مفتعل، فرضه نوع التربية الاجتماعية، وليس هو سلوكاً فطرياً نابعاً من أصل الخلقة، بمعنى آخر: السعي في توحيد نوع السلوك بين الجنسين، ونبذ مظاهر التفريق المفتعلة بينهما، ولا شك أن هذا المفهوم من شأنه إلغاء الأحكام الشرعية، التي تفرق بين الجنسين، بما فيها أحكام الحجاب وستر العورة الخاصة بالمرأة، وقد نبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم مؤكِّداً ضرورة التمايز السلوكي بين الجنسين: فقد " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال"، كما " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل "، واللعن هو الطرد من رحمة الله تعالى، ولا يصدر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عند اقتراف أمر شنيع.

والمتأمل في الواقع الاجتماعي المعاصر، وما طرأ على وضع المرأة وسلوكها من التطور: يجد أن مفهوم (الجندر) : آخذ في الظهور والشمول، فعلى الرغم من تأخر ظهوره كمصطلح متداول، إلا أن مقتضاه الخطير آخذ في السيطرة على المفاهيم العقلية والتطبيقية في الحياة الإنسانية بصورة عامة، والحياة الإسلامية والعربية بصورة خاصة منذ عقود مضت، فالتقارب السلوكي بين الجنسين، وتطابق الأدوار بينهما أصبحا واقعاً اجتماعياً قائماً يصعب إغفاله، فلم يعد غريباً في المجتمع العربي المعاصر أن تقوم المرأة بدور الرجل، فبعد أن كان المجتمع في بداية القرن العشرين يقدِّر المرأة المحجبة ربة المنزل، ويعتبرها مثالاً للمرأة الفاضلة: تبدَّل هذا التقدير ليعطى للمرأة المتحررة المنطلقة في الحياة العامة، والناظر أيضاً في ألبسة النساء يرى بوضوح التحول الكبير والمتدرج من الألبسة المحافظة والأحجبة في بداية القرن العشرين إلى السفور والتبرج، حتى إن الناظر يجد أن ألبسة الرجال في بداية الألفية الثالثة أكثر أدباً ومحافظة من ألبسة بعض النساء، وهذا الوضع الأخلاقي من شأنه خلط مفاهيم ومعالم الذكورة والأنوثة، لتنصهر جميعاً في قالب واحد ضمن مفهوم (الجندر) الجديد.

وعلى الرغم من أن دعوة تحرير المرأة في بداية القرن العشرين كانت منحصرة في الدعوة إلى كشف وجوه النساء المسلمات، إلا أنها – بعد ذلك – اتخذت أبعاداً أخرى: سلوكية واجتماعية وسياسية، فما بين صدور كتاب: (تحرير المرأة )، لقاسم أمين وبين تولي امرأة مرتبة وزير نحو من خمسين عاماً تقريباً، وهذا يدل على شمول وارتباط قضايا المرأة بعضها ببعض، ويدل أيضاً على مركزية قضية كشف المرأة عن وجهها، باعتبارها حاجزاً اجتماعياً يحول دون الانفلات الاجتماعي، ومن هنا كان لا بد من بحث هذه القضية، والوقوف على أبعادها: التاريخية، والأخلاقية، والاجتماعية.