29- حجاب المرأة عبر التاريخ

29- حجاب المرأة عبر التاريخ

يزعم بعضهم: أن النساء زمن النبوة وعصر الخلفاء كنَّ سافرات الوجوه، لا يحتجبن عن الرجال؛ بمعنى أنه لا جديد في آيات الحجاب أكثر من غطاء الرأس والجسم دون الوجه والكفين، وهذا زعم لا يصح من الجهة التاريخية الواقعية لتطبيق الأمة، بل إن المتأمل في التاريخ الإنساني الطويل يجد أن تستر النساء سنة ماضية في جميع المجتمعات البشرية، ومروراً بالحضارات الإنسانية القديمة المختلفة، حتى إن غطاء الوجه والكفين كان معروفاً عندهم، وقد كان من المسالك الاجتماعية المحترمة التي تعاطتها المرأة في أوروبا حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ، وقد وُجد البرقع في القارة الأمريكية حين اكتشفها المسلمون قبل رحلة كولومبس المشهورة، وذلك على طريقة حجاب النساء المسلمات في الأندلس، وقد كان المجتمع الأوروبي ورجال الدين فيه حتى عقدين من بداية القرن العشرين يستهجنون تبرج النساء، ويستنكرون ظهورهن في المجتمع العام بغير احتشام، ويتوجَّسون من التجديد الذي طرأ على ملابسهن وسلوكهن، وقد شاع بين النساء الأوروبيات عند ممارسة الرياضة لبس السراويل السابغة الفضفاضة التي تستر فخذي المرأة والركبتين، وقد شـوهدت المرأة البريطانيــة عام 1928م وهي تلعب التنس بملابس فضفاضــة ، لا يظهر منها إلا الوجه والكفان ، وشيء من الساعدين، ولا يُستغرب في بعض بلاد المسلمين اليوم مشاهدة المرأة النصرانية ترتدي الحجاب الإسلامي، ومازالت القوانين الغربية حتى اليوم – رغم اتساع الانحلال الأخلاقي- تعاقب على التعري في الطريق العام.

وأما المرأة في الجاهلية العربية فقد كانت تمارس في الجملة نوعاً مقبولاً من التستر، ولم تعرف المجتمعات الإنسانية الراقية التبرج الذي يمارسه كثير من نساء اليوم إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين الميلادي؛ فقد شاع بين كثير من النساء العربيات في العصر الجاهلي غطاء الوجه، فضلاً عن غطاء الرأس وباقي الجسد، والشعر الجاهلي حافل بالمعاني الدالة على هذا النوع من التستر ؛ ولهذا كان غالب غزل شعراء الجاهلية العربية ينصب على وصف الأجزاء التي قد تظهر من بعض النساء كالوجه ، واليدين، وأسفل الساقين ، ولم تكن المرأة العربية آنذاك تتجاوز هذا الحد من الكشف عن جسمها إلا في المصائب والنكبات ، حين تخرج إحداهن عن طبعها ؛ وذلك رغبة في إثارة الحمية القبلية في قومها ، ولقد كان من أسـباب إشعال حرب الفجار – التي شارك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة – بين قريش وبني عامر: أن شاباً من قريش ألح على امرأة من بني عامر أن تكشف عن وجهها فأبت، فاحتال عليها حتى انكشفت عورتها، فصاحت بقومها، فاشتعلت الحرب، وفي هذا يقول الحلبي في سيرته معلقاً على هذه الحادثة: " يدل على أن النساء في الجاهلية كنَّ يأبين كشف وجوههن".

إذا كان هذا وضع حجاب النساء في الجاهليات التي سبقت الإسلام: فلا بد أن يكون لآيات الحجاب بعد البعثة النبوية معنى إضافي على ذلك؛ من جهة الالتزام الشرعي بتمام التستر، والبعد عن مواضع الفتنة، والالتفات إلى البيوت ونحوها، فلا يتصور أن يأتي الإسلام – فيما يحفظ أخلاق المجتمع – بما هو دون ما تعارفت عليه المجتمعات المتحضرة من الحق في الماضي؛ لذا فقد انتهى حجاب النساء في عصر النبوة إلى غطاء الوجه، بما في ذلك نســاء النبي صلى الله عليه وسلم وعمــوم نساء الأمة ؛ فقد دخل أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجَّىً على فراشه قد قُبض، والنسوة حوله، وفاطمة رضي الله عنها قطعاً بينهن، فلا يتصور أن تغيب عن هذا الموقف، يقول ابن كثير رحمه الله: "... فخمَّرن وجوههن واستترن من أبي بكر إلا ما كان من عائشة..."،يعني أن جميعهن غطين وجوههن بما فيهن فاطمة عدا عائشة رضي الله عنهن جميعاً.

وعلى هذا المنهج المحافظ سار الخلفاء، حتى إن علياً رضي الله عنه لما أراد أن يكلِّم عاتكة زوجة عمر رضي الله عنهما، حدَّثها بحضوره من جانب الخدر، ولما شكت امرأة زوجها إلى عمر رضي الله عنه دعاه ليسأله، وأقعدها خلف ظهره، فلما حضر الرجل قال له: "ما تقول هذه الجالسة خلفي؟ قال: ومن هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: هذه امرأتك "؛ يعني أن الرجل ما عرف زوجته لكونها مغطية وجهها، وجاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان " يُلبس بناته القفَّازين"، ولما بلغ هشام بن عروة بن الزبير رضي الله عنهم أن ابن إسحاق يروي عن زوجته فاطمة بنت المنذر رضي الله عنها استنكر ذلك وقال: " تحدث ابن إسحاق عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، والله إن رآها قط "، وعلق الذهبي رحمه الله على هذا بقوله: " هشام صادق في يمينه فما رآها، ولا زعم الرجل أنه رآها، بل ذكر أنها حدثته، وقد سمعنا من عدة نسوة وما رأيتهن"، فقد كان نهجهم السماع من وراء حجاب، وهذا النوع من السماع مقبول عند العلماء لا اعتراض عليه، وهي الطريقة التي كانت تروي بها السيدة عائشة رضي الله عنها للرجال الأجانب.

وعلى هذا النهج سارت الأمة في قرونها المتعاقبة، حتى إن بعض النساء ممن كان لهن نفوذ سياسي في بعض فترات التاريخ الإسلامي: كنَّ يقضين في الأمور العامة من وراء
حجاب، وكانت الواحدة من قريبات الملوك والأمراء تُمدح بقولهم في وصفها:
"المُحجَّبة"، ويذكر الإمام أبو عبد الله السبتي خبر أم الخير فاطمة البطائحي (ت 711 هـ) حين أخذ عنها الإجازة في المسجد النبوي، حيث وصف دقة تستُّرها وحيائها، رغم أنها كانت حينذاك في التاسعة والخمسين من عمرها فيقول عنها : "... كانت تسدل جلبابها على وجهها حياءً وصوناً رضي الله عنها"، وعلى هذا النهج كان عمل نساء الحجاز في اتخاذهن الحجاب، لايكاد يُرى منهن حين يخرجن إلى الطريق مخرز الإبرة من كثيف الملابس والجلابيب، والبراقع والخفاف، ومن أعجب ما يُنقل عن تمام تستر النساء في التاريخ الإسلامي: خبر ليلى الأخيلية مع عشيقها توبة الحميري، فعلى الرغم من التعلُّق الشــديد الذي كان بينهما ، فقــد كانت لا تقابله إلا ببرقعها على وجهها.

وقد كان الرجال من أصحاب كتب التراجم لا يعرفون صفات النساء الأجنبيات المترجم لهن حتى وإن كانت إحداهن معاصرة له إلا من خلال المحارم أو النساء، وفي هذا يقول المؤرخ شرف الدين أبو البركات اللخمي في ترجمة المقرئة الكاتبة جَشْمَأورنة بنت مكي الأرموية: " أخبرنا بنسبها وصفتها محمد بن حامد بن محمد بن يحيى الأرموي ابن أختها"، وقريب من هذا ما ذكره الإمام ابن حجر العسقلاني في ترجمة شيخته رقية (ت 830 هـ) بنت شرف الدين محمد، حيث يقول: " فلما كان في سنة سبع وعشرين حضرت عندهم في محاكمة، فرأيتها تامة القامة، مستوية العقل، وذكر لي أهلي أنه لم يظهر عليها الكبر، وأن أكثر ما يمكن أن يكون سنها ما بين الستين والسبعين"، فرغم لقائه بها إلا أنه ما عرف سنها لكمال تسترها، بل إن بعض العلماء كان يستنكر على الكبيرة العجوز أن تكشف وجهها، فقد قال السخاوي رحمه الله عن إحدى شيخاته، ممن أخــذ عنها بعض الرواية : " كنت ممن حمل عنها قديماً أشياء قليلة استغناء عنها، خصوصاً وقد كانت على نمط كثير من العجائز في عدم التحجُّب ونحوه، ثم حسن حالها، وقرأت عليها سائر ما وقفت عليه" .

وعلى الرغم من أن بعض العلماء يرى جواز كشف وجه المرأة، وأنه ليس بعورة إلا أنهم مع ذلك يأمرونها بالنقاب والتستر، وفي هذا يقول ابن حجر:" ومن المعلوم أن العاقل يشتد عليه أن الأجنبي يرى وجه زوجته وابنته ونحو ذلك..."،فهذا هو نهج السلف حين لم يتركوا للخلاف الفقهي - في مسألة جواز كشف وجه المرأة للأجانب - موضعاً للتطبيق في الحياة العامة، فكانت المسألة العلمية قضية، والتطبيق العملي قضية أخرى؛ بل إن النصَّ لو وُجد مخالفاً للعمل المتوارث عن السلف : لم يُؤخذ به، فإن العمل المتوارث حجة، والنصُّ قابل للتأويل أو النسخ أو نحو ذلك، يقول المحدث شاه ولي الله الدهلوي:" إن اتفاق السلف وتوارثهم أصل عظيم في الفقه"، وكذلك عمل أهل المدينة في عصر الخلافة الراشدة حجة قاطعة باتفاق المسلمين، وطريقتهم سنة ماضية يُعمل بها ويُرجع إليها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ"؛ لذا فإن " قول الصحابي: كنا نقول كذا، ونفعل كذا من ألفاظ التكثير، ومما يفيد تكرار الفعل والقول، واستمرارهم عليه، فمتى أضاف ذلك إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم على وجه كان يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكره: وجب القضاء بكونه شرعاً، وقام إقراره له مقام نطقه بالأمر به" ؛ فإن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم شرع يتبع، وجزء من سنته التي أمر الناس بالعمل بها، فإذا تقرر هذا : فإن قول السيدتين عائشة وأسماء رضي الله عنهما : " كنا نغطي وجوهنا من الرجال ...": يدخل ضمن ما أقرهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصبح جزءاً من سنته التي ألزم الله الناس اتباعها.

والناظر في التاريخ الإسلامي يجد أن المرأة في البلاد الإسلامية لم تعرف سفور الوجْه– فضلاً عمَّا أجمع المسلمون على وجوب ستره من البدن- إلا في بداية القرن العشرين الميلادي، بعد تحـريـض النساء على السفور من خلال الدعوات المشبوهة، ودعم وتحريض بعض الأنظمة الحكومية لها؛ إذ لم تكن الدعوة في أول أمرها تهدف لأكثر من كشف الوجه ؛ فقد كان الجدال الاجتماعي حينها منصباً حول جواز كشفه أمام الأجانب من الرجال؛ وذلك حين كان غطاؤه في الحياة العامة سائداً بين النساء المسلمات، عاماً فيهن حتى العقد الثالث من القرن العشرين، بل إن بعضهن من فرط الحياء والعادة المستحكمة تغطي وجهها حتى في بيتها بين محارمها؛ ولهذا كان أقصى ما قامت به النساء الجريئات في ذلك الوقت هو الكشف عن وجوههن، كما فعلت ذلك هدى شعراوي حين رجعت من روما عام 1923م بعد مشاركتها في مؤتمر دولي للنساء، والناظر في المجلات المصورة التي صدرت في تلك الفترة يجد أن دعوة تحرير المرأة لم تتجاوز في مطالبها حدود كشف الوجه؛ فقد كانت المرأة الجريئة منهن تظهر مغطية لجسمها بكامله عدا وجهها، ومن شهود ذلك العصر على صحة ما تقدم : حكاية الكاتبة زينب بنت علي العاملي، التي عاشت الفترة ما بين 1860م- 1914م، فرغم ما كانت تحمله من بعض الأفكار التحررية حول المرأة :تحكي عن حالها ومعاناتها حين ألَّفت كتابها: " الدر المنثور في طبقات ربات الخدور"، فتقول: "خصوصاً من كانت مثلي ذات حجاب، ومتنقبة من المنعة بنقاب"، تعني صعوبة حركتها الاجتماعية لجمع المادة العلمية لكتابها لكونها متنقبة.

ومن هنا يُعلم أن الحجاب ليس بدعة ابتدعها الرجل وفرضها على المرأة، أو تقليداً نابعاً من المجتمع، بل سلوك فطري، ودين يُتَّبع، وعمل أنثوي قديم قدم البشرية، وكذلك غطاء وجهها، فقد دخل في حياة المرأة المسلمة ضمن حجابها الشرعي، وعملت به الأمة عبر القرون المتعاقبة ، وهو صورة من صور الإجماع العملي الذي عملت به الأمة منذ فرضه الله تعالى على النساء حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجري، حين بدأت الدعوات والنداءات المشبوهة الداعية للسفور.