33- هيبة المعلم التربوية

33- هيبة المعلم التربوية

كثيراً ما يلجأ المعلمون من ضعاف الشخصية إلى استذلال الطلاب وإهانتهم ، والتعامل معهم بقسوة ، أو الاستقواء عليهم بالإدارة المدرسية ، ظناً منهم أن هذا الأسلوب يكسبهم المهابة في صدور التلاميذ ، ويفرض سلطانهم الهشَّ عليهم ، وربما تناول أحـدهم تلميذاً من التلاميذ - لأتفه الأسباب - بالضرب الشديد ، في أول لقاء دراسي ، بهدف إشعار بقية التلاميذ - من أول الأمر- بقوة شخصيته ، وشدَّة بأسه ، رجاء أن ينضبطوا معه طوال العام الدراسي ، وعلى الرغم من أن هذا الأسلوب الرديء قد يجدي أحياناً مع طلاب وبيئات معينة ، وضمن ظروف حياتية قاسية ، إلا أنه - من الوجهة التربوية - لا يتجاوز الناحية الشكلية والمظهر الخارجي ، وتبقى الحقيقة الماثلة في نفوس التلاميذ هي رفض هذا المعلم ومادته العلمية .

إن الهيبة التربوية التي ينشدها المعلمون لا تأتي من خارج الشخصية ، ولا تُفرض بالأنظمة والقوانين ، ولا تتمكَّن بالقسوة ولا بالشدة ، وإنما هي رصيد إيماني صادق ، قد غمر قلب المعلم حتى فاض على جوارحه ، وبدا واضحاً على محياه ، قد أكسبه إجلالاً ومهابة في صدور الآخرين ، لا يخطؤه صغير ولا كبير ، يقول الحسن البصري : " إن المؤمن رُزق حلاوة ومهابة " ، فمع ما يتصف به المؤمن من حسن الخلق فقد علته مهابة الإيمان ، التي تكسبه الهيبة في صدور الآخرين ، فالناس بطبعهم يهابون أهل الإيمان ، وقد جاء في الأثر عن عبيد بن عمير الليثي رضي الله عنه أنه قال : " الإيمان هَيوبٌ " ؛ يعني : " يُهاب أهله " ، فهذه الهيبة الحقيقية التي تناسب الدور التربوي للمعلم ، فينتفع بها التلاميذ غاية الانتفاع من جهة الانضباط السلوكي ، ومن جهة التحصيل الدراسي .

ولقد بلغت الهيبة منتهاها في شخص المعلم الأكبر محمد صلى الله عليه وسلم ، فعلى الرغم من عظيم خلقه ، ولطيف معشره ، وكريم سجاياه ، إلا أن الهيبة التربوية قد علته ، فعرفها الصحابة رضي الله عنهم ، حتى إن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما -  هابا أن يكلِّماه حين سها في صلاته ،  ولما حضر أبو رمثة التيمي بولده - رضي الله عنهما - عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لولده: "هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأخذته الرعدة هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ..."، وفي رواية قال : " فجعل ابني يرتعد هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ... " ،  وما تزال هيبة الإجـلال مسـلك المـربين بعـد رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما : " مكثـت سنتـين أريد أن أسـأل عمـر بن الخطاب عن حديث ، ما منعني منه إلا هيبته ... " ،  وقال سعيد بن المسيب لشيخه سعد بن مالك : " إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أهابك ... " ،  وكان بعضهم يجلس في درس الحسن البصري ثلاث سنوات ، فلا يجرؤ على سؤاله ، هيبة له .

ولما كانت عملية ضبط الفصل الدراسي - في أنظمة التعليم الحديثة - من أهم وآكد أهداف المعلمين لبلوغ المقاصد التعليمية ؛  فقد كانت الهيبة - غير المصطنعة - أداة المعلمين الأوائل في إحكام مجالسهم العلمية وضبط طلابهم ، حتى ما يكاد أحدهم يتحدَّث في حضرة شيخه ، ولا يقوم من مكانه ، ولا يَبري قلمه ، يجلسون عنده كأنهم في صلاة ، حتى قال قائلهم : " كنا نهاب إبراهيم - يعني النخعي- كما يُهاب
الأمير
" ،  وقال الإمام الشافعي : " كنت أصفح الورقة بين يدي مـالك - رحمه الله - صفـحاً رقيقـاً هـيبة له ؛ لئلا يسمع وقعها " ،  وقال الربيع بن سليمان : " والله ما اجـترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبة له " .

ولا يفهم من الهيبة التربوية أنها الغلظة ؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذمها :" ... ألا أخبركم بأهل النار : كلّ عُتلٍّ ، جوَّاظ ، مستكبر " ،  وفي رواية : " لا يدخل الجنة : الجوَّاظ ولا الجعظري" ،  فهذه الصفات القبيحة المذمومة جمعتها صفتا الغلظة والفظاظة في الطبع والسلوك ،  التي تشين المسلم العامي ، فضلاً عن المعلم المخوَّل بأمانة التربية .

وفي مقابل هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم موجهاً المعلمين : " سيأتيكم أقوام يطلبون العلم ، فإذا رأيتمـوهم فقولوا لهم : مرحباً مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقنوهم " ، أي علموهم ،  وكان من لطفه عليه السلام أنه يتبسم حين يحدث أصحابه ،ملاطفة لهم ، ويقولصلى الله عليه وسلم : " إن الله أرسلني مبلِّغاً ولم يرسـلني متعنِّـتاً " ،  وفي هـذا يقول النـووي في حـق المعلم : " يتخلَّق بالمحاسن التي ورد الشرع بها ، وحثَّ عليها ، والخلال الحميدة ، والشيم المرضية ... والجود ومكارم الأخلاق ، وطلاقة الوجه ، من غير خروج إلى حدِّ الخلاعة " ،  ويقول القابسي مرجِّحاً التوسط للمعلم بين التبسُّط والتقبُّض حتى يُبقي على هيبته في نفوسهم : " ... ينبغي له ألا يتبسَّط إليهم تبسُّط الاستئناس في غير تقبُّض موحش في كل الأحايين ، ولا يضاحك أحداً منهم على حال ، ولا يبتسم في وجهه ، وإن أرضاه وأرجاه على ما يحب ، ولكنه لا يغضب عليه فيوحشه إذا كان محسناً " .

إن من أهم ما يعبر عن المهابة في شخصية المعلم : وقاره في أداء مهمته التعليمية ، وسلامة هيئته العامة مما يخدش مقامه ؛ فأما الوقار فهو ما يتصف به المعـلم من صـفات : الحـلم ، والرزانـة ، والسـكينة ، والطمأنينة ،  التي عبَّر عنها أمير المؤمنين عمـر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله : " تعلَّموا العلم ، وتعلَّموا له السكينة والوقار " ،  وهي ما عبَّر عنها أيضاً عطاء بن يسار بقوله : " ما أوى شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم " ،  وقال الشافعي : " ليس العلم ما حُفظ ، العلم ما نفع ، ومن ذلك دوام السكينة ، والوقار ، والخشوع ، والتواضع لله والخضوع " ،  وجملة ذلك تظهر في اتزانه السلوكي أمام التلاميذ ، من جهة حـركـات بدنه ، واتجاه نظره ، وسكون يديه ، واعتدال صوته ، وقلَّة ضحكه ، وتوقيه المزاح .  

ومما يُنقل عن علماء السلف في سلوك الوقار ، ما أخبر به أبو السائب سَلْم بن جنادة عن وقار وكيع بن الجراح في مجلسه حيث قال : " جالست وكيع بن الجراح سبع سنين ، فما رأيته بزق ، ولا رأيته مسَّ - والله - حصاة بيده ، ولا رأيته جلس مجلسه فتحرك ، وما رأيته إلا مستقبل القبلة ، وما رأيته يحلف بالله " ،ومن لطائف حلمه وسكينته ، ما حدَّث به أبو عثمان الورَّاق قال : " اجتمع أصحاب الحديث عند وكيع ، قال : وعليه ثوب أبيض ، فانقلبت المحبرة على ثوبه ، فسكت ملياً ، ثم قال : ما أحسن السواد في البياض " ،  ولهذا كان أثر العلماء من خلال السلوك ربما أبلغ من أثرهم من خلال العلوم ؛ فقد كانت الجموع تحضر مجالس العلماء ليس للكتابة عنهم فحسب ، ولكن لملاحظة السلوك والسمت ،  قال الإمام أبو حنيفة : " الحكايات عن العلماء ومجالستهم أحب إلي من كثير من الفقه ؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم " .

وأما سلامة هيئة المعلم مما يشينها فتكمن في سلامة مظهره ، ونقاء ثوبه ،
وطهارة بدنه ، وفي اجتنابه النجاسات ، وحرصه على الآداب الشرعية القاضية بنظافة الأبدان ، وإزالة الأوساخ ، والتزام سنن الفطرة ، وقطع الروائح الكريهة ، ونحوها من كمال الهيئة في غير تكلُّف أو إسراف ،  فالمظهر الحسن - غير المتكلَّف- يثير الإعجاب ، ويبعث على الاحترام ، لا سيما إذا انضم إلى الوقار ، واجتمعت إليه الهيبة ، فحينئذٍ تكمل شخصية المعلم ، وتصبح قدرته على التأثير قوية ، وسلطته
على الضبط نافذة .