38- حماية النساء العاملات من الأعمال الشاقة المضنية

يدخل الضابط الإنساني في إحكام طبيعة عمل المرأة من جهة الجهد الذي يحتاجه ، والزمن الذي يستغرقه ، والسن التي يتناسب معها ؛ فإن المجتمع الصناعي اليوم يستغل الإنسان على شكل آلة ، لا إرادة له ؛ إنما يستقبل الأوامر وينفذها، دون اعتبار لقدراته البشرية ، وأحاسيسه الإنسانية ؛ فقد صاحب الثورة الصناعية في أوروبا وأمريكا اضطهاد وظلم عام ، شمل الرجال والنساء ، وحتى الأطفال، وقد بلغت ظروف تشغيل النساء والفتيات الصغيرات من القسوة مبلغاً عظيماً ، حتى وُصفت مواقع أعمالهن بأنها أماكن للتعذيب البشري ، إلى درجة أن أرباب العمل – لفرط جشعهم – لم يعفوا الفتيات الصغيرات من خوض ميدان الصناعات الثقيلة : كصناعة القاطرات الحديدية ، والعمل في مناجم الفحم ، وحفر الأنفاق، ونحوها من  الأعمال التي لا ينبري لها إلا القليل من الرجال فضلاً عن النساء والفتيات ، إلى جانب طول ساعات العمل التي قد تصل أحياناً إلى اثنتي عشرة ساعة في اليوم ، إضافة إلى انخفاض المخصصات والأجور ، في صور أخرى متنوعة من الاضطهاد الإنساني لعنصر النساء ، لا يُعرف له مثيل إلا في زمن الفراعنة حين كانوا يستخدمون النساء في تشييد الأهرامات.

إن هذه الصورة الواقعية للمرأة الغربية العاملة قبل نحو من مائة عام، وما يشابهها اليوم في واقع الحياة المعاصرة ، ضمن ما يُسمى : "  معجزة شرق آسيا الاقتصادية " ، التي تعمل هي الأخرى على استغلال النساء بصورة بشعة؛ فإن "  النساء لا يزلن يعملن لساعات أطول ، وبأجر أقل ، وفي وظائف عمل أسوأ من الرجال في جميع أنحاء العالم "  ، وهذه الأوضاع الصعبة ليست بعيدة عن واقع
بعض النساء والفتيات المسلمات في بعض المجتمعات العربية الحديثة ، وما يمكن أن تصل بهن الظروف الاقتصادية والصناعية من البؤس والشقاء في المستقبل ؛ فإن الخطوات الصناعية التي خاضها الغرب في السابق تتشابه إلى حد كبير مع ظروف النهضة الاقتصادية لبعض الدول الإسلامية المعاصرة ؛ فما كان من الأعمال ممنوعاً على المرأة قبل سنوات ، مبغوضاً لها ، أصبح اليوم مسموحاً به، بل مرغوباً فيه ، ولا يبعد أن يأتي الوقت الذي تخوض فيه المرأة المسلمة غمار كل الأعمال الشاقة بنسب تشابه نسب الرجال كما حصل في الغرب ، وكما يحصل الآن في شرق آسيا ؛ فإن بدايات هذا التوجه الخطير أصبحت في بعض الدول الإسلامية المعاصرة واضحة في ميادين الصناعات الثقيلة بأنواعها؛ بما فيها من أعمال التشييد والبناء ، واستخراج النفط ، وصناعة الكهرباء والغاز ، وأعمال المناجم ، وصناعة الحديد ، وغيرها من الأعمال الشاقة التي تُستغل فيها جهود بعض النساء والفتيات والأطفال على الطريقة الغربية .

إن الضابط  الإنساني في التصور الإسلامي يأبى على السيد أن يُسخِّر مملوكه فيما لا يُطيق من الأعمال ، فكيف بالمرأة المسلمة الحرة التي أعفاها الشارع الحكيم – ابتداءً – من طلب المعاش : تُكلَّف بما لا يُطاق من الأعمال؟

وقد أكَّدت هذا المعنى وثيقة المؤتمر الإسلامي التاسع عشر لوزراء الخارجية عام 1411هـ  ، المنعقد في القاهرة ، حول قضية حقوق الإنسان؛ حيث أكَّدت أنه لا يجوز تكليف العامل فوق طاقته ، أو إكراهه ، أو استغلاله ، أو الإضرار به، لاسيما أن الشريعة الإسلامية تقدم حفظ النفس على حفظ المال ، والوجهة الاجتماعية العامة واضحة في النفرة من الأعمال المرهقة والشاقة ، في مقابل الرغبة الجامحة عند الشباب في الأعمال السهلة والمكتبية ، بل إن المرأة لتفتدي ببعض دخلها الشهري مقابل تخفيض ساعات العمل ، رغبة منها في شيء من الراحة.

كما أن واقع الأمة المسلمة عبر تاريخها الطويل ، ونهضتها العمرانية والصناعية الكبرى لم تكن تستخدم النساء في شيء من الأعمال العامة الشاقة ، فقد كانت تعتمد بصورة كلية على قدرات الرجال والشباب ، وما زال هذا التوجه المحافظ واضحًا في العديد من الدول الإسلامية المعاصرة ، حتى إن الفتيات والسيدات لا يزلن في هذه الدول يحجمن عن الأنشطة الصناعية التي تتطلب جهودًا شاقة، وقد أثبت الواقع العلمي أن نفرة النساء والفتيات من هذه المجالات الشاقة لا تنحصر في الممارسة الميدانية فحسب ؛ بل إن النفرة سارية حتى على الجانب النظري المتصل بهذه الأعمال ، من جهة الإنتاج الفكري والعلمي المرتبط بالهندسة والعمارة، ونحوهما من الأعمال الميدانية الشاقة ، ولا يعني هذا ألا يكون من بين النساء من يهْوَين ممارسة العمل الشاق الطويل ، ويتلذذن به ، حتى إن بعضهن ربما لا تمانعن من أن يكن ضمن فريق يستخرج النفط في الصحراء ، أو أن يباشرن مهام رجال إطفاء الحريق، أو أن تتولى قيادة الشاحنات والمجنزرات الضخمة ، إلا أن هؤلاء النسوة لا يتجاوزن حدَّ الشذوذ ،  الذي ينتاب بعض الأفراد من نوادر المجتمع الإنساني ، والقاعدة الفقهية تنصُّ على أن : "  العبرة بالغالب ، والنادر لا حكم له "  .