الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الاقتصادية للفتاة @ 29- أزمة الأخلاق في الاختلاط بين الجنسين في العمل


معلومات
تاريخ الإضافة: 3/7/1432
عدد القراء: 2390
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

لم يكن الاختلاط بين الجنسين في مواقع العمل معروفاً عند الغربيين – فضلاً عن المسلمين – منذ الثورة الاقتصادية وحتى بداية القرن العشرين الميلادي تقريباً ، فقد كان التوجه الاجتماعي في بداية الأمر ضدَّه ، ثم ما لبث الأمر أن عمَّ حياة العمل بالتدريج ، حتى إنه لم يعد عندهم في هذا الزمن مكان يُمارس فيه الفصل بين الجنسين إلا في دورات المياه, التي ما تزال في غالب الدول الغربية مقسَّمة حسب الجنس.

ولم تكن المجتمعات الإسلامية المعاصرة بعيدة عن هذه الأجواء الاقتصادية المختلطة – لاسيما في عصر العولمة – فقد تأثرت بها إلى حدٍّ كبير ؛ إذ ليس لها قدوة في الساحة التنموية المعاصرة سوى النموذج الغربي ، فعمَّ الاختلاط غالب مواقع العمل في البلاد الإسلامية ، حتى أصبح عند كثير من الفئات الاجتماعية : توجُّهاً خاصاً لها ، تدعمه آراء فقهية معاصرة ، ومع ذلك فما زالت فئات اجتماعية أخرى تتوجه ضده ، وتعتبره مشكلة من مشكلات المجتمع، معتمدة في ذلك على الفتاوى الشرعية المعاصرة بمنعه ، وشروط الفقهاء المتعددة لضبطه ، والحسِّ الأنثـوي المُتعفِّف الذي لا يستريح – بالفطرة – لمزاحمة الرجال الأجانب والاحتكاك بهم ، وفوق ذلك كله وجود تلك النصوص الشرعية المُحكمة التي ترفض الاختلاط بين الجنسين ، وتُضيِّق مجالاته إلى أبعد مدى ممكن ، إلى جانب التطبيق العملي الواقعي للأمة عبر تاريخها المجيد ؛ فقد استخلص بعض العلماء من مجموع هذه النصوص: أنه لا يجوز خلوة الرجل بجمع من النساء ليس فيهن امرأة هو محرم لها ، كما
لا يجوز أن يخلو جمع من الرجال بجمع آخر من النساء ليس بين اثنين منهما محرمية، حتى منع الإمام الشافعي – رحمه الله – أن يصلي الرجل بعدد من النساء إلا أن تكون إحداهن محرماً له ، وكل ذلك ضبطاً للمسألة الأخلاقية, وحماية للفضيلة من الانتهاك .

إن المشكلة الانحرافية في مسألة الاختلاط بين الجنسين لا تكمن في اللقاء العام الذي تفرضه الحاجة بصورة مؤقتة ، ثم ينتهي بانتفاء تلك الحاجة – لكون الحاجة تقدَّر بقدرها - وإنما المعضلة تكمن في طول اللقاء الذي تفرضه طبيعة العمل المؤسسي ، بحيث يصعب – مع الاحتكاك الدائم – بل ويستحيل أن لا "  تقوم علاقات وجدانية بين موظف وزميلته ، كما تقوم بينه وبين الزملاء من الرجال ؛ وذلك أن العمل يخلق وشائج وجدانية بين الأطراف المتعاملة " ، فيتخفف الجميع بالتدرج الطبيعي من بعض التزاماتهم التحفُّظية، وترتفع بينهم – بالتعوُّد – شيئاً فشيئاً مشاعر الكُلْفة ومظاهر الحياء ، بحيث تزول من نفوس النساء العاملات في تعاملهن مع الرجال الأجانب مشاعر الخوف الطبيعي ، والحذر الفطري ، والحياء الأنثوي ، الذي جُبلت عليه المرأة، ويُبنى مكانها – من خلال الاحتكاك المستمر – الجرأة في التعامل معهم ، والإيجابية في الإقدام عليهم ، حتى لا تعود إحداهن تشعر بفرق بينها وبين الرجل : فتسلك على طريقته ، وتتحدث بنبرته، وتتعامل بخشونته .  

وقد عبَّرت إحدى الممرضات بلهجتها المحلية العامية عن هذه المشاعر الذكورية, التي اكتسبتها من اختلاطها بالرجال فقالت : "عملي مع الرجال أعطاني قوة ، وأنا دا الحين أقعد مع أي رجل كأني رجل ، دا الحين ما صرت أهاب الرجال ، صرت أتكلم معاه ند لند ، أحترمه بس ما أخاف منه " ، وقالت طبيبة أخرى بعبارتها الخاصة:"  أعتقد أن عملي مع الرجال ساعدني على أني أفهم كيف يفكر الرجل ، المرأة اللي بتشتغل في معزل عن الرجل بتخاف من التعامل مع الرجل ، ما تعرف إمتى تضحك ، وإمتى تخاف ، ما تعرف فين حدودها معاه ، ما تعرف كيف توقف الرجل عند حده لو حاول التطاول عليها "  .

ولئن كان استمرار احتكاك المرأة العاملة بالرجال الأجانب يذهب بالحياء ، ويدفع إلى سلوك التحرش الجنسي ، الذي لا يكاد ينفك عنه واقع العمل المختلط : فإن مزيداً من هذا الاحتكاك ربما يؤدي إلى الفاحشة الكبرى ، فقد ثبت ميدانياً وجود علاقة قوية بين انحرافات النساء الجنسية واختلاطهن بالرجال في العمل ؛ بحيث تزيد احتمالات وقوع الانحرافات الجنسية كلما كان عمل المرأة وضيعاً، أو كانت طبيعته تتطلب شيئاً من الخلوة المحرمة مع رجل أجنبي ؛ فإن الاستجابة العاطفية بين طرفين مرْضيين في حال الخلوة تكاد تكون أمراً مفْروغاً منه حتى في أطهر البيئات الإسلامية ؛ ولهذا أجمع المسلمون على حرمتها حتى وإن أمنت الفتنة ، ولم تؤد إلى الوقوع في الفاحشة، بينما تخفُّ هذه الضوابط الخلقية ، وما يترتب عليها من العقوبات الشرعية في حق الأمة المُبتذلة ، التي تتعرض للفاحشة أثناء سعيها في خدمة أوليائها ، فلا تستطيع الامتناع لحقارة مكانتها الاجتماعية ، وضعف حصانتها النفسية .

إن مما ينبغي أن يرسخ في الأذهان : أن العلاقة بين ذكر وأنثى – أجنبيين مرْضيين – مهما بلغت من الطهر والنقاء وسلامة المقاصد : لا تعدو حقيقة الفتنة الجنسية ؛ فإن المرأة قد تؤثر في الرجل ، وتثير عاطفته تجاهها, دون قصد منها ؛ لأن مفهوم النشاط الجنسي أوسع وأعم من مفهوم النشاط التناسلي ، "  فمجرد الإحساس بتمايز الجنسين ، والشعور بشيء من الانجذاب أو الاستلطاف تجاه الطرف الآخر : يُعدُّ نشاطاً جنسياً ، ولكنه لا يُعتبر نشاطاً تناسلياً ؛ فالرجل والمرأة لدى احتكاكهما في مجالات الالتقاء بين الجنسين إنما يمارسون جميعاً نشاطاً جنسياً, حتى وإن وُصف بأنه نشاط غير تناسلي "، وهذا ما يُسمى في الشريعة بالزنا المجازي، الذي تمارسه جوارح الإنسان ، ويبقى بعد ذلك النشاط التناسلي الذي يصدِّقه الفرج أو يكذِّبه .

ولعل أول خطوة تسبق هذا النوع من النشاط الجنسي غير التناسلي هي تحديد نوع الجنس عند اللقاء بين الجنسين ، فهذا أول ما يقع في النفس عند تبادل النظر، وهو نظر الفجأة ، الذي أمر الرسول  فيه بصرف البصر ، وهذا النوع من السلوك لتحديد نوع الجنس عند أول لحظات اللقاء بين الجنسين يصعب إهماله، أو ربما يستحيل ذلك ؛ بحيث يلتقي شخص بآخر ، فلا يشعر للوهلة الأولى بنوع جنسه ، بل إنه لو خفي عليه ذلك ، فما استطاع تحديد جنسه : شعر بالمعاناة ، وربما تكلَّف النظر وكرره حتى يستقر في نفسه نوع جنسه ، ولقد حلَّ الحجاب – في نظام الاجتماع الإسلامي – هذه المعاناة بين الجنسين ، فلا يخفى نوع الجنس معه ، وهذه المسألة مع كونها بدهية فطرية تحصل بالضرورة عند الاختلاط بين الجنسين ، فإنها مع ذلك تبقى الخطوة الأولى بكل ما تحمله من التفاعل والحيوية.

وإذا كان الواقع قد أثبت شدَّة افتتان بعض النساء بالرجال الحسان ؛ فإن النساء بالنسبة للرجال عموماً أعظم فتنة على الإطلاق ، فلا تعدو الشابة المرْضية منهن أن تكون موضوعاً جنسياً لأصلح الرجال ، حتى لا يكاد ينجو من هذه المشاعر العاطفية إلا معصوم , فالمرأة المسترجلة في سلوكها ، الجريئة في تعاملها مع الزملاء تستعدي على شرفها الوقح من الرجال ؛ فإنهم لا يفهمون منها إلا هذا ، والمرأة الحيية الخجلة ، المجبولة على السلوك الأنثوي: تفعل في هزِّ قلوب الرجال ما تعجز عنه الجريئة الوقحة ؛ لأن "الجانب الأنثوي والعاطفي هو الأساس في إثارة جنس الذكر " ، وهو أيضاً الأساس الذي يستند إليه جمال المرأة في حسِّ الرجال ، فالمرأة العاملة في جو مختلط تعيش بالضرورة بين هاتين المذمتين السلوكيَّتين ، فلا تنفعها الجراءة ، ولا يخدمها الحياء في كفِّ عواطف الرجال عنها ، إلا في حالة انتفاء سبب التجاذب الجنسي بذهاب الشهوة الدافعة : حين يشيخ الرجل أو يُخصى ، أو حين تقعد المرأة أو تشوه, فلا يبقى فيها ما يُستحسن ويجذب .

ورغم أن الحجاب الشرعي يقوم بدور فعَّال في ضبط سلوك المرأة من جهة ، وضبط سلوك الجنس الآخر تجاهها من جهة أخرى؛ فإن مهمة الحجاب كوسيلة وقاية من الإثارة الجنسية يضعف بطول المقام وكثرة الاختلاط، بل قد يكون في حد ذاته وسيلة إثارة للفاسق ، تدفعه لمعرفة ما هنالك من مفاتن الزميلة المخبَّأة ، فيتحيَّن فرص انكشافها حين غفلتها, بعد أن يكون قد ملَّ من قياس جِرْمها ، وتقدير حجم عظامها ، فلا يبقى للحجاب في مثل هذه الأحوال الاجتماعية دوره الفعَّال .

إن المرأة المكتملة البناء قبل أن تكون عاملة منتجة : فإنها أنثى تفتقر بطبيعتها الغريزية إلى الجنس الآخر ، وتحتاجه – بصفة دائمة – في بناء صورتها عن ذاتها ، وتقييمها لجمالها , مما قد يدفعها – رغم استعفافها عن الفاحشة – إلى شيء من التبرج والسفور ، والإفراط في الزينة والملابس؛ لتشبع نهمتها الفطرية للقبول عند الجنس الآخر ، فإن قُدِّر للمرأة العاملة أن تضبط مشاعرها ، وتُلْجم عواطفها ، وتلتزم بالحجاب الشرعي ، وأدب الاختلاط : فأنَّى لها أن تمتنع عن غريزة تقويم الجمال في الطرف الآخر, التي يعجز الجنسان عن تجاوزها عند اللقاء ؟ وكيف لها أن تكفَّ عن زملائها فتنة جمال وجهها ، وصفاء لون بشرتها ؟ فإن الوجه مجْمع الجمال من المرأة , ومكان انفعالها العاطفي ، ولون بشرتها ونعومة ملمسها من معالم جمالها الفتَّان ، ثم أنَّى لها أن تكفَّ عينيها عن التعبير بصدق عما يخالج قلبها ووجدانها من مشاعر الإعجاب والغرام تجاه المرْضي من الزملاء ؟ وكيف لها أن تحمي عينيها وقلبها من استقبال رسائل الحب والهيام من الجنس الآخر، فضلاً عما يمكن أن يغزو قلبها من عبارات المديح والثناء التي يُجيدها كثير من ذئاب الرجال ؟ فالمــرأة مهما ادَّعت أو ظنَّت فإنها لا تعدو بالنسبة للرجل مفهوم الفتنــــة ؛ لذا فإنه" لا ينبغي للعاقل ولا للجاهل أن ينكر علاقة شخص بشخص ، وحنين شكل إلى شكل، ومؤلفة إلف إلى إلف ، فالقـــلوب صافية قابلة ، والعيون إليها ناقلة " ، وفي الحكمة : "  يعبِّر عن الإنسان اللسان ، وعن المودة العينان".

بل إن المرأة العاملة في ميدان مختلط لا تنفك عن هذا المفهوم الغريزي, حتى لو التزمت بالحجاب الشرعي الكامل ، بحيث لا يظهر من جسمها شيء ؛ فإن نبرة صوتها ، وحركة جسمها الطبيعية أثناء أدائها لعملها لا يكفُّها الحجاب، فلو خلت حركتها ونبرة صوتها من قصد الإثارة والتعبير عن المشاعر فأنَّى لها أن تخلو من الجمال الأنثوي الذي ينبعث تلقائياً بصورة طبيعية من حركة جسمها الفتَّانة ، ونبرات صوتها الخلابة ؟

بل وحتى الصمت فإنه لا يقلُّ شأناً – في بعض الأحيان – عن التعبير بالقول ، حين يأتي ضمن مواقـــف وقرائن معينــة ، واللغة لا تقتصر على الحروف والأصوات ، بل تشمل كل الوسائل الممكنة للتفاهم ، وإيصال الرسائل بين الناس ، كحركة الجسم والجوارح واستخدام العطور ونحوها ؛ لذا فإن داعي الغريزة يستعصي بقوة عنفه على كلِّ سلوك مُتكلَّف ، فلا تقوم لسطوتــه أقمشة الجلابيب إلا بالقدر اليسير ضمن الزمن اليسير .

إن لقاء الجنسين العابر في الطريق العام ، أو دار العبادة ، أو السوق يرد خطره وسلبيته الحجاب الشرعي ، وغض البصر ، وخشونة الكلام ، أما لقاؤهما الدائم في مواقع العمل فلا يردُّه إلا الضعف الجنسي ، الذي يحدثه الترويض المستمر على الاختلاط بين الجنسين ، فيذهب بجزء من الجاذبية الجنسية ويضعفها ، ففي "  الوقت الذي كانت فيه المرأة محتجبة عن أنظار الرجل، كانت مشاهدته لكعبها يشكل مثيراً جنسياً قوياً لديه ، أما اليوم وقد صارت المرأة تحت عيني الرجل طوال النهار ، فقد خفَّت . . . القيمة الجنسية للأجسام التي يراها , لدرجة أن المرأة وهي تزاحم الرجل في وســـائل المواصلات لا يكاد يحسُّ بالفارق بين جسدها وبين جسد أي رجل ممن يزاحمونه"، ولهذا يظن الظَّانُّ أن الاختلاط في العمل يرفع مستوى التعامل بين الجنسين ، ويهذِّب السلوك الجنسي ، وهو في الحقيقة إنما يضعفه ؛ حينما يستهلك جزءاً من الطاقة الشهوية في الكلام واللمس وإطلاق البصر ، لذا تحتاج مراكز الإثارة الجنسية في دماغ الرجل المُنْهك بمزاحمة النساء إلى مزيد من أسباب الإثارة ، والحوافز المُهيِّجة ، وربما العقاقير المساعدة ليصل درجة التوتر الجنسي، الذي يحتاجه مع حليلته، ولعل هذا ما يفسِّر حقيقة التبلد الجنسي العام الذي أصاب كثيراً من رجال هذا العصر ، رغم ما يظهر في الحياة العامة من فرط إقبالهم على الموضوع الجنسي .

ومن هنا جاءت التوجيهات الإسلامية المُلزمة للكفِّ عن أسباب الإثارة الجنسية خارج نطاق الزوجية ، فأمرت بغض الأبصار ، وتحريم الخلوة ، ومنع المصافحة ، والحذر من الخضوع بالقول,  ونحوها من أسباب الفتنة ، وهذه الإلزامات الشرعية لا يمكن أن تتحقق عَلَى الوجه الأكمل, كما أراد لها الشارع الحكيم إلا بالامتناع عن الاختلاط, الذي تفرضه طبيعة العمل المؤسسي الحديث .

ولقد حلَّت وسائل الاتصال الحديثة مشكلة الاختلاط في العمل بين الجنسين ، وذلك من خلال إتاحتها فرص عمل للنساء في بيوتهن ، فيمكن لإحداهن أن تمارس الأنشطة التجارية المختلفة مثل التسويق ، والتخطيط ، والتسعير ، والترويج ، والتوزيع ، كل ذلك عن بعـــد, عن طريــق شـــبكات الإنترنت ، كما يمكنها إبرام العقود ، وعقد الصفقات ، دون حضورها الشخصي في مجلس العقد ، أو الشخوص بنفسها في الأســواق التجارية ، فلا حرج عليــــــها شـرعاً في كل ذلك ؛ فإن الكتابــــــة تقوم مقــام المخاطبــة في ذلك، وقد كشفت دراسة ميدانية عن أن النساء العاملات إذا توافر لهن عمل منزلي فإنهن يفضِّلنه على العمل الخارجي بنسبة ( 84%)، فالمرأة المسلمة في البيئة المحافظة كالمملكة العربية السعودية يمكنها – دون حرج – أن تمارس نشاطها التجاري أو الاستثماري عن بعد ، فتدير ثروتها بنفسها دون الحاجة إلى التوكيل ، فالمرأة السعودية تملك حوالي ( 40%) من الثروة الخاصة ، و( 3.4%) من مجموع الشركات في المملكة ، فهذه الوسائل الحديثة تُتيح لها مباشرة أعمال بنفسها دون حرج شرعي أو أخلاقي .